تسعى روما إلى انتهاج سياسة جديدة في ليبيا وتعزيز علاقاتها معها، خاصة وأنها تعتبر أن الوقت حان لتعويض الفرص الضائعة نتيجة جهود مكافحة الهجرة.
غياب منذ 2011
مر أكثر من 13 عامًا على ثورة 2011، على اللحظة التي دعمت فيها إيطاليا على مضض تدخل الناتو والذي فرض بعد ذلك حظرا جويا فوق ليبيا، في الأثناء، شهدت إيطاليا تداول 9 حكومات. وبغض النظر عن الائتلافات الحاكمة المختلفة في روما، فقد أدت الأزمة في ليبيا إلى إعادة التفكير في الموقف الجيوسياسي لإيطاليا وتوجهها الاستراتيجي.
وتعد “ليبيا المستقرة” أمرا بالغ الأهمية من الناحية الاستراتيجية بالنسبة لإيطاليا، من أجل السيطرة على منطقة البحر الأبيض المتوسط الأوسع، وذلك لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية.
شهد العقد الماضي تلاشيا تدريجيا لنفوذ روما على ليبيا وتقلص طموحاتها، حيث تضاءل على مدى السنوات الماضية النفوذ السياسي الذي امتلكته إيطاليا تاريخيا في ليبيا . كيف أهدرت إيطاليا رأس مالها السياسي ومصداقيتها في ليبيا؟ وكيف يمكن لدولة لها مصالح بارزة ومصلحة اقتصادية قوية أن تفشل في ليبيا؟
مصداقية على المحك
بين عامي 2014 و2017، وصل أكثر من 600 ألف مهاجر إلى إيطاليا، غادر معظمهم من الشواطئ الليبية بعد رحلات مكثفة عابرة لإفريقيا. وتفيد التقارير الصادرة عن المنظمات الإيطالية غير الحكومية، أن الكثير منهم عانى من العنف والعمل القسري والاستغلال الجنسي في مراكز الاحتجاز الليبية الرسمية وغير الرسمية.
وأصبحت قضية الهجرة نقطة محورية في السياسة الإيطالية لعدة أسباب، على رأسها تحديات إدارة استقبال وإدماج المهاجرين، إلى الاستغلال السياسي للمخاوف من تسلل الإرهابيين والاختلافات الثقافية، إلى المخاوف بشأن الاستقرار الديمقراطي في البلاد، بحسب ما جاء في تقرير لموقع أيس بي الإيطالي.
عامل توتر
ويفيد التقرير الإيطالي، بأن سنة 2017 مثلت ذروة المخاوف بشأن زيادة عدد المهاجرين الوافدين، تزامنا مع استعداد إيطاليا لإجراء الانتخابات، حيث قدم وزير الداخلية ماركو مينيتي، آنذاك، استراتيجية جديدة لمعالجة الأزمة الليبية.
إثر وصول رئيس الحكومة الإيطالية باولو جينتيلوني للحكم مباشرة، لم يصبح تحقيق الاستقرار في ليبيا مجرد أولوية في حد ذاته، بل أصبح وسيلة للسيطرة على تدفقات الهجرة ومواجهة التهديدات العابرة للحدود الوطنية.
وانخرطت روما على نطاق واسع، حيث عملت بشكل وثيق مع حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، ووقعت اتفاقيات، وقدمت المساعدات المالية والدعم الفني، وأصبحت أول دولة غربية تعيد فتح سفارتها في طرابلس.
سياسة ميلوني
على الرغم من تغير القيادة والتحالفات السياسية في روما، ظلت الاستراتيجية الأساسية ثابتة حتى بعد أن تولت حكومة الوحدة الوطنية، بقيادة عبدالحميد الدبيبة، مهامها في طرابلس في عام 2021، وشهدت إيطاليا حكومات مختلفة تأتي وتذهب، منذ حكومة جوزيبي كونتي مرورا بحكومة ماريو دراجي، وصولا إلى الحكومة الحالية قيادة جيورجيا ميلوني منذ أكتوبر 2022.
ومع ذلك، ظهرت ديناميكيات جديدة مع تحول مغادرة المهاجرين من غرب ليبيا إلى شرقها في السنوات الأخيرة. وكردة فعل زادت روما التواصل مع سلطات شرق ليبيا سياسيا واقتصاديا. وقد تم تسليط الضوء على هذا التحول من خلال زيارة حفتر إلى روما في مايو 2023 والاجتماع اللاحق الذي عقدته ميلوني في بنغازي في 7 مايو.
استثمار لصد الهجرة
حتى الآن، خصصت إيطاليا، إلى جانب أموال الاتحاد الأوروبي، ما يقرب من 479 مليون يورو “لإضفاء الطابع الخارجي” على حدودها مع ليبيا، أي تمكين الجهات الفاعلة الأجنبية من منع المهاجرين من الوصول إلى إيطاليا. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية المتمثلة في الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة الهجرة، عبر تمويل الدوريات والتكنولوجيا، واستثمار قدر كبير من الاهتمام السياسي والموارد كان لها عواقب كبيرة غير مقصودة.
خارج المشهد
على الرغم من تفاعلاتها مع الجهات الفاعلة المحلية، لم تكن إيطاليا من بين اللاعبين الأكثر تأثيرًا في تشكيل ديناميكيات ليبيا. واستغلت دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا وروسيا وفرنسا وقطر الانقسامات الداخلية في ليبيا لتعزيز أجنداتها المحلية والدولية. لقد أفسد هذا التدخل احتمالات إنشاء مؤسسات ليبية مستقرة وإعادة بناء الدولة والسلام الدائم.
طموحات روما
وللسيطرة على تدفقات الهجرة، قامت روما بطمس الخطوط الفاصلة بين السلطات الغربية والشرقية في ليبيا. في البداية، كانت إيطاليا مؤيدًا قويًا لاتفاق الصخيرات، الذي أدى إلى إنشاء حكومة الوفاق الوطني في بداية عام 2016، لكنها وجدت نفسها تتعامل مع دولة منقسمة حيث ظلت ليبيا منقسمة بين مراكز السلطة المتنافسة. ودفع هذا الوضع وزير الداخلية الإيطالي آنذاك ماركو مينيتي إلى إقامة علاقات مع حفتر خلال فترة ولايته، ودمجه في النهج الإيطالي الجديد تجاه الأزمة الليبية.
سياسة جديدة
تبدو إيطاليا اليوم، بقيادة جورجيا ميلوني، على استعداد لتنشيط دورها في شمال إفريقيا، وكذلك في منطقة الساحل الإفريقي وبقية القارة، من خلال “خطة ماتي”، التي أسست على شبكة علاقات أكثر عدالة عبر البحر الأبيض المتوسط. ومن المقرر أن تنطلق قريبا المشاريع التجريبية الأولية في تسعة بلدان إفريقية، إلا أن ليبيا ليست من بين هذه الدول، على الرغم من أنه خلال زيارة ميلوني إلى طرابلس في مايو 2024، تم التوقيع على مذكرات تفاهم بشأن مجالات الصحة والتعليم والرياضة في إطار خطة ماتي. ومع ذلك، فإن مجرد تعزيز التعاون التنموي لا يكفي لإعادة ترسيخ النفوذ الإيطالي في ليبيا.
الهجرة والطاقة
لتحقيق هدف استعادة نفوذها في ليبيا، يتعين على الحكومة الإيطالية أن تعيد النظر بشكل جذري في استراتيجية تعامها مع ملف الهجرة، وينطوي هذا على الابتعاد عن المناقشات السياسية الاستقطابية وتحويل التركيز من تأمين الهجرة إلى الاعتراف بإمكاناتها السياسية والديموغرافية والاقتصادية لمستقبل إيطاليا. وبدلاً من التركيز على مراقبة الشرطة والحدود فقط، ينبغي على إيطاليا أن تركز المناقشات حول هذه التأثيرات الأوسع.
أما من جانب ليبيا، فمن شأن هذا التحول أن يقلل من القوة الاقتصادية والشرعية السياسية التي عززتها إيطاليا عن غير قصد بين مختلف “مفسدي السلام” المحليين والإقليميين. علاوة على ذلك، فإن انخفاض اعتماد إيطاليا على موارد الطاقة الليبية -والذي اتسم بتراجع صادرات الغاز الطبيعي منذ ثلاثة عشر عامًا في عام 2023- من شأنه أن يشجع القيادة الإيطالية. وهذا يمكن أن يفتح الفرص لاقتراح مسارات مبتكرة للسلام والمصالحة الوطنية مع جارتها الجنوبية.
قد تؤدي التغييرات الاقتصادية والسياسية في إيطاليا إلى تغييرات إيجابية في علاقتها مع ليبيا، ربما ينعكس في تقليل الاعتماد الإيطالي على الطاقة الليبية، مقابل تعزيز القيادة الإيطالية العمل على سبل جديدة للسلام والمصالحة الوطنية.