التحولات الجيوسياسية وتغير أنظمة الحكم بين الانقلابات والانتخابات 

إفريقيا أرض الثروات وساحة الصراعات

تعيش القارة السمراء على صفيح ساخن في ظل تقلبات سياسية عميقة غيرت الخارطة الجيوسياسية داخليا وإقليميا وعالميا، حيث شهدت بعض الدول انقلابات عسكرية وأخرى انتخابات فيما تعيش دول أخرى فترات انتقالية وتبحث الدول المتبقية عن سبيل لإجراء انتخابات.

 

آخر الانتخابات

أبناء منديلا يفقدون القيادة

أظهرت النتائج النهائية للانتخابات العامة في جنوب إفريقيا، المعلن عنها مطلع يونيو، فقدان حزب نلسون منديلا المعروف بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم للأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ 3 عقود، إثر الانتخابات التي صوت فيها 28 مليون ناخب، لاختيار 930 عضوا بين الجمعية الوطنية (البرلمان) والهيئات التشريعية لدى الأقاليم التسعة للبلاد،

وتفتح هذه النتائج الطريق أمام تجربة جديدة في إدارة شؤون البلاد فهي تقطع ما ساد قبلها من سيطرة الحزب الواحد حزب المؤتمر على المؤسسة التشريعية وفرضه خياراته السياسية ليجد نفسه هذه المرة مضطرا إلى التوافق مع أكثر من طرف سياسي منافس لتشكيل ائتلاف يمثل الأغلبية العددية داخل الجمعية الوطنية وهو ما يطرح جدلا حول قدرة الائتلاف القادم على الصمود وتوحيد توجهاته وانسجام مكوناته مع بعضها البعض.

 

المشهد بين آخر دولة في القارة الإفريقية وصولا إلى تشاد التي تقع في قلب القارة لا يختلف كثيرا، فرغم أنها تمكنت من إنجاح مرحلة انتقالية دامت نحو 3 سنوات، بتنظيم انتخابات رئاسية، بناء على دستور 2023 الجديد، فاز فيها الرئيس المؤقت، في الفترة الانتقالية، محمد ديبي بكرسي الحكم، إلا أن خصمه الرئيسي في الانتخابات “سوكسيه ماسرا” الذي أعلن فوزه في بث مباشر على فيسبوك طالب قوات الأمن وأنصاره إلى رفض ما وصفه بـ “سرقة الانتخابات” ما أدى إلى حالة توتر في العاصمة أنجامينا، يجعل مصير البلاد مفتوحا على كل الاحتمالات التي قد تهدد استقرارها من جديد.

من خليج القارة المطل على جنوب المحيط الأطلسي إلى غربها المطل على شماله، فرغم وقوعها بين 4 من أكثر دول القارة شهرة بالانقلابات، وبعد 3 سنوات من الاضطرابات السياسية والأمنية غير المسبوقة التي عرفتها السنغال، فقد نجحت داكار في مارس الماضي من تنظيم عرس انتخابي، أنهى حكم ربع قرن للائتلاف الحاكم بزعامة الرئيس المنتهية ولايته “ماكي سالي”، حققت فيه المعارضة السنغالية نجاحا كان يعدّ قبل بضعة سنوات حلما، حيث أعلنت مفوضية الانتخابات فوز الرئيس “باسيرو نديوماي فاي” (40 عاما)، في منافسة سياسية ضمت 19 مترشحا بينهم شخصيات معروفة ووزراء في الائتلاف الحاكم سابقا، وتوصف السنغال بأنها نموذج ديموقراطي فريد في المنطقة، حيث لم تسجل في تاريخها أي انقلاب عسكري.

 

أبواب الاقتراع

في الوقت الذي أفلحت فيه بعض الدول في تنظيم انتخابات واتجهت نسبيا إلى الاستقرار، تستعد أخرى من بينها موريتانيا لتنظيم انتخابات رئاسية في مشهد إقليمي متحرك وآخر سياسي غير مستقر في أغلب دول الجوار، حيث سيتجه الموريتانيون نهاية يونيو الجاري إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في ثامن انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد، لاختيار رئيس جديد أو ربما لتجديد الثقة في الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني لولاية ثانية.

في الوقت الذي تمر فيه موريتانيا بمرحلة صعبة من التحديات الداخلية وفي صدارتها التصدي لموجة الهجرة التي يقبل عليها عشرات الآلاف من الشباب الموريتاني ، مقابل مخاطر إقليمية أهمها الحرب في الجارة مالي وأزمة اللاجئين القادمين من منطقة دول الساحل.

المشهد في دول جنوب إفريقيا الساخن بالصراعات وبعضها مسلح، مختلف عن شمالها، حيث تشهد المنطقة نوعا من الاستقرار تترجمه انتقالات سلمية للسلطة، ففي الجزائر، قرر الرئيس عبد المجيد تبون إجراء انتخابات رئاسيه مسبقة مطلع سبتمبر المقبل، أي قبل ثلاثة أشهر من التاريخ القانوني للاقتراع، بهدف العودة إلى الأجندة الانتخابية العادية بعد حراك 2019 .

 

أما تونس وبعد حل البرلمان عام 2021 وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها بمشاركة ضعيفة جدا، عاد الجدل مرة أخرى حول مصير الانتخابات الرئاسية المقبلة وتاريخ تنظيمها، فيما شددت الهيئة الوطنية للانتخابات، أن رئاسية العام الحالي ستجرى في موعدها بين سبتمبر وأكتوبر المقبلين دون تعيين يوم محدد وهو ما أبقى باب الغموض مفتوحا ما إذا كانت هذه المحطة الانتخابية في تونس ستكون حبلى بالمتغيرات التي قد تطال نظام الحكم فيها وهي التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة .

 

وفي سياق مختلف وفي دولة الجوار ليبيا، تجري المبعوثة الأممية الخاصة بالنيابة ستيفاني خوري مساعيا تبدو حثيثة مع الفرقاء السياسيين في شرق وغرب البلاد وكذلك بممثلي البعثات الدبلوماسية والمنظمات والفاعلين الإقليميين بهدف الوصول بالبلاد إلى تاريخ حقيقي لتنظيم انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية حيث كانت أخر انتخابات نظمت في ليبيا عام 2014، دون أن تفضي إلى استقرار في نظام الحكم ،فالبلاد تقودها حكومتان وبرلمان ومجلسان، انقسام تغذيه المطامع الإقليمية المتزايدة في ثروات دولة تتصدر القارة الإفريقية في إنتاج النفط.

 

19 بلدا إفريقيا يعيش على وقع انتخابات العام الجاري، فمن المقرر، تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة في رواندا منتصف يوليو المقبل، وأن تشهد جمهوريات موزمبيق وبوتسوانا انتخابات تشريعية ورئاسية في أكتوبر من العام الحالي، تليها الصومال وناميبيا وجمهورية موريشيوس وناميبيا في نوفمبر، على أن يختتم موسم الانتخابات في القارة السمراء في جنوب السودان، وفي غانا حيث سيتوجه المواطنون لانتخاب رئيس جديد للبلاد بعد انتهاء عهدة ثانية وأخيرة للرئيس نانا أكوفو أدو.

 

إثارة المطامع

تعد القارة الإفريقية موطنًا رئيسيا لإنتاج النفط، إذ تضم دولا من بين أكبر منتجي النفط كليبيا ونيجيريا وأنغولا والجزائر.

حيث بلغ إجمالي إنتاج النفط، عام 2022، في إفريقيا، بما في ذلك النفط الخام والنفط الصخري والرمال النفطية وسوائل الغاز الطبيعي، 332.3 مليون طن متري

وتمتلك ليبيا أكبر كمية من احتياطي النفط الخام في القارة، إذ تبلغ 48.4 مليار برميل، بينما تبلغ الاحتياطيات النيجيرية 36.9 مليار برميل.

في مقابل ذلك، تواجه “ماما أفريكا” تحديات مثل عدم الاستقرار السياسي وقضايا الحوكمة وعجز البنية التحتية ما يجعلها مطمعا ووجهة للقوى الإقليمية الباحثة على توسيع نفوذها وتعزيز موادها والسيطرة عليها؛ ما يجعلها محط المطامع والاهتمام والاستثمار الدولي والإقليمي

قارة ساخنة وحرب باردة

في الوقت الذي تعيش فيه القارة على صفيح ساخن من شمالها إلى جنوبها، بين صراعات أهلية وانقسامات وانقلابات وانتخابات وتغيرات جذرية للمشهد السياسي برمته وتحالفاته، تتنافس قوى إقليمية وعالمية أهمها روسيا وأمريكا وأوروبا والصين، في حرب باردة، يترجمها على أرض الوقاع التدافع العسكري والسياسي والاقتصادي المتمركز أساسا في ليبيا والنيجر بهدف التمدد والانتشار منها إلى إفريقيا.

ويثير التقارب والعلاقات الجيدة بين روسيا وعدد من الجنرالات النافذين في إفريقيا من ليبيا إلى النيجر وصولا إلى غينيا وتشاد، مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت تفقد نفوذها الحيوي والعسكري في القارة تدريجيا.

ففي آخر تحركات رقعة الشطرنج، تعيش “الأميرة واشنطن” انتكاسة في استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب ضد الجماعات المتطرفة في المنطقة، حيث أعلنت القيادة العسكرية أن الوجود الأمريكي في النيجر غير قانوني، ما قد يعني إغلاق القاعدة الجوية الأميركية 201، التي أنشئت في شمال البلاد عام 2018 لإجراء مراقبة بطائرات بدون طيار لتنظيم “داعش” والجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في منطقة الساحل.

فواشنطن تخشى أن يؤدي فقدان قواعدها في النيجر إلى المخاطرة بالدولة المجاورة لبوركينا فاسو ومالي من خلال الوقوع تحت الهيمنة الروسية، خاصة أمام توغّل “الفيلق الإفريقي” في ليبيا وبوركينا فاسو ومالي، وكذلك في العديد من البلدان الإفريقية الأخرى.

قدمت الولايات المتحدة مبادرات في مختلف الاتجاهات في الدول الإفريقية التي تشهد تحولات في مشهدها السياسي، على أمل الحفاظ على التعاون معها ومنع وقوع هذه الدول تحت نفوذ الغريم الروسي، تزامنا مع السعي بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي لكبح جماح روسيا في بسط سيطرتها أو نفوذها على أكبر مساحة ممكنة في القارة الإفريقية.

قمة روسية إفريقية

في يوليو 2023 جمعت روسيا دول القارة الإفريقية في قمة مشتركة احتضنتها مدينة بطرس بورغ، وتمخض عنها إعلان بوتين تزويد عدد من دول إفريقيا بالأسلحة مجانا لتعزيز الأمن في القارة وتعزيز العمل المشترك مع أجهزة الأمن والعسكر والمخابرات، بالإضافة إلى شراكات اقتصادية وسياسية وتجارية.

ولإغراء دول القارة ألغت موسكو ديونا بقيمة 23 مليار دولار، وتعهدت بتأمين الغذاء من خلال زيادة الصادرات الزراعية.

هذه القمة التي ترجمت مدى التقارب الروسي الإفريقي، أثارت مخاوف أوروبا وأمريكا على حد سواء باعتبار أنها تهديد مباشر لمصالحهما في تلك الدول التي تضم ثروات طبيعية هائلة جعلتها فريسة سهلة المنال. وما عمّق المخاوف المشتركة بين نيويورك وأوروبا الموقف الموحد الذي اتخذته القمة المتمثل في تحدي ما أسماه بوتين “النظام الاستعماري”.

 

فرنسا وموجة التحرر الإفريقي

في مشهد سقطت فيه “بيادق فرنسا” في إفريقيا واحدا تلو الآخر منذ 2011، أدت الأوضاع التي عاشتها دول العمق الإفريقي خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة إلى إنهاء الوجود والنفوذ الفرنسيين فيها بداية من مالي مرورا ببوركينا فاسو وصولا إلى النيجر وذلك إثر فشل باريس في تحقيق الأمن المنشود في منطقة الساحل الإفريقي في مواجهة “الجماعات المسلحة” كتنظيمَي القاعدة، وبوكو حرام وغيرهما، فضلا عن دعم الإليزيه لنظم تعمل ضد صالح شعوبها في كل من الغابون وتشاد، كما سجل مطلع العام الماضي تقلص الوجود العسكري الفرنسي في القارة بواقع 3000 جندي بدلا من 5500.

وعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سار على درب أسلافه موليا اهتماما كبيرا بمصالح بلاده في إفريقيا، مترجما ذلك بـ 19 زيارة إلى دول القارة منذ توليه الحكم في 2017، إلا أن باريس لم تفلح في تحقيق أهدافها في المنطقة، علاوة على أن خططها ركزت بشكل كامل على الجانب العسكري متجاهلة المطالب التنموية لسكان تلك الدول ما أنتج رفضا كبيرا لديهم لمواصلة وجودها تحت أي غطاء كان.

قد يكون التراجع الفرنسي انحناءة في وجه العاصفة، فمن الصعب على باريس أن “تطلّق” القارة السمراء بصفة نهائية وبهذا الشكل، وأن تتنازل على كل تلك الثروات الموجودة والمكتشفة، خاصة وأنها كانت تعول كثيرا على عائداتها في خوض معاركها خارج حدودها.

 

روما على خط مواز أو قاطرة أوروبية؟

روما التي صاغت استراتيجية كاملة أطلق عليها “خطة ماتي” أعادت ترتيب أوراقها في التعامل مع الضفة الأخرى للمتوسط، وخلط الأوراق داخل البيت الأوروبي، فركزت بشكل كبير على دول شمال إفريقيا معلنة سياسة جديدة قوامها المصالح والمنافع المشتركة “فلا ضرر ولا ضرار”، ومن باب التعاون في تقليص تدفق الهجرة غير النظامية القادمة من دول جنوب البحر الأبيض المتوسط (تونس وليبيا)، نحو سواحلها نجحت إيطاليا بقيادة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني في تثبيت موطئ قدم لها في دولتين مفتاحين للقارة الإفريقية وبشريط ساحلي استراتيجي سياسيا واقتصاديا، ما يضمن لروما علاقات جيدة مع بوابة القارة الجارة، خاصة وأنها نأت بنفسها عن التدخل السياسي “الفاحش” في الشؤون الداخلية لهذه الدول واكتفت بدعم ما تتبناه من سياسات وقرارات مستقلة.

وتبدو علاقات روما الجيدة مع إفريقيا خاصة “دول البوابة” بمثابة ممر نجدة لأوروبا لإعادة ترميم حضورها السياسي وحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية في إفريقيا، ويتجلى ذلك من خلال تكفل إيطاليا بالتفاوض نيابة عن التكتل الأوروبي في موضوع الهجرة غير النظامية وحماية الحدود.

الصين في إفريقيا

 

الوجود الاقتصادي المتنامي للصين في إفريقيا على مدى العقدين الماضيين لافت للاهتمام، حيث إن الزيادة السريعة في مشاركة الصين الاقتصادية وحضورها السياسي يعتبران مؤشرا يجب على القوى الإقليمية أخذه بعين الاعتبار، فهي طرف فاعل حديث واقتصاد عملاق وقوة ناشئة.

بكين وإن كانت تسعى للحصول على الموارد الطبيعية من القارة السمراء فهي تسعى ولو ظاهريا إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية “للأفارقة” وبناء مستقبل مستدام وتسهم في إرساء أسس للتنمية الاقتصادية طويلة الأمد من خلال مشاريع البنى التحتية والأساسية.

على عكس التصور التقليدي بأن الصين لا تهتم إلا بالموارد الطبيعية في إفريقيا، فإن مصالحها في إفريقيا تشمل عدة أبعاد سياسية واقتصادية وتجارية، تختلف أهميتها بحسب الظروف ووفقًا لطبيعة مشاركتها في المنطقة.

أول هذه الأهداف جيوسياسية دبلوماسية تتمثل في الاعتراف بسيادتها على تايوان، وكسب حلفاء للحصول على الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية، أما ثانيها فهو زيادة القوة الناعمة للصين في المنطقة، وتقديمها كبديل للغرب.

وبين رغبات الدول العظمى ومطامعها في ثروات ال”ماما أفريكا” وإدارتها للصراعات السياسية البينية في محاولة لإقصاء الخصوم والمنافسين من أجل الظفر بخيرات القارة السمراء تتشكل خارطة جيوسياسية جديدة فلا تحالفات على الدوام ولا خصومة إلى ما لا نهاية، فهل تفلح أنظمة الحكم القادمة في دول إفريقيا في تعديل أسس العلاقات التي تربطها مع الطامعين فيها.

أخبار ذات صلة

الأسود: ربما تتفق روسيا معنا في أن مبادرة خوري غير واضحة الرؤية

ليبيا ترفض أن تكون ورقة ضغط، وغياب مصر عن المؤتمر يثير التساؤلات

الدبيبة: لن نسمح بأن تكون ليبيا ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية