في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها العالم، تبرز الصين كقوة اقتصادية عالمية تسعى لتوسيع نفوذها في مناطق استراتيجية مختلفة، ومن بينها ليبيا. فبعد سنوات من الانسحاب الاقتصادي الذي أعقب ثورة 2011، تعود بكين اليوم بقوة إلى الساحة الليبية، مستغلة حاجة البلاد لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية، في خطوة تشكل تحدياً جديداً للنفوذ الأمريكي التقليدي في المنطقة.
براغماتية محسوبة
وتكشف التطورات الأخيرة عن نهج صيني يتسم بالبراغماتية والحذر في آن واحد. حيث عقد وزير الاقتصاد والتجارة محمد الحويج اجتماعات مع شركات صينية رائدة أمس الثلاثاء، وذلك لبحث فرص التعاون في مجالات الصناعة والمقاولات والبنية التحتية. هذه الخطوة تأتي في أعقاب زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة إلى الصين في مايو الماضي، حيث تم التباحث حول إعادة تفعيل التعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين.
إرث قديم
ولا تأتي العودة الصينية إلى ليبيا من فراغ، بل تستند إلى إرث من العلاقات الاقتصادية القوية التي سبقت 2011. في آواخر عهد معمر القذافي، كانت الشركات الصينية تسيطر على مشاريع ضخمة في ليبيا بقيمة تجاوزت 20 مليار دولار، شملت قطاعات النفط والبناء والسكك الحديدية والاتصالات. واليوم، تسعى بكين لاستعادة هذا النفوذ الاقتصادي وتوسيعه، مستفيدة من الفراغ الذي خلفته الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
حياد إيجابي
ويتميز النهج الصيني في ليبيا بعدة سمات تجعله مختلفاً عن النفوذ الأمريكي التقليدي. أولاً، تركز الصين على الجانب الاقتصادي والتنموي، متجنبة التدخل المباشر في الشؤون السياسية الداخلية على عكس روسيا والدول الغربية وعدد من القوى الإقليمية. ثانياً، تتبنى بكين سياسة “الحياد الإيجابي” تجاه الأطراف المتنازعة في ليبيا، حيث تحافظ على علاقات مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وكذلك مع القيادة العامة وحكومة أسامة حماد ومجلس النواب في شرق البلاد. وثالثاً، تقدم الصين نموذجاً تنموياً يركز على البنية التحتية والمشاريع الضخمة، وهو ما يلبي احتياجات ليبيا في مرحلة إعادة الإعمار.
مع طرابلس
وفي مايو الماضي دعا رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الشركات الصينية لاستكمال المشاريع المتوقفة في بلده، مؤكداً دور بكين في عملية إعادة الإعمار التي تشهدها ليبيا، وافتتح الدبيبة، في العاصمة الصينية بكين، أعمال الملتقى الاقتصادي الصيني الليبي الأول، تحت شعار “ليبيا ـ الصين شركاء في التنمية والإعمار.”
وحضر الافتتاح 84 شركة صينية تعمل في مجالات مختلفة، ومديرو الأجهزة التنفيذية بالحكومة، حيث أكد الدبيبة، وفقاً لمكتبه، دور الصين في عملية إعادة الإعمار، وضرورة التركيز على استئناف المشاريع المتوقفة في بلاده، والتعاقد عليها مع شركات صينية، وعدّها المرحلة الأولى من التعاون المشترك، لافتاً إلى وجود أكثر من 23 ألف عامل صيني في ليبيا حالياً، بعدما كان عددهم 5 آلاف فقط خلال الأعوام الماضية.
مع بنغازي
وقبل ذلك وفي فبراير الماضي، استقبل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، رئيس تحالف الشركات الصينية “بي إف آي”، صالح عطية، وهو تحالف أعمال تقوده شركة سكك حديد الصين الدولية، بالإضافة إلى وزير الاقتصاد في الحكومة المكلفة من مجلس النواب علي السعيدي.
حيث تركزت المحادثات حول آخر التطورات المتعلقة بمشاريع في مجال مصادر الطاقة المتجددة، مثل بناء محطات للطاقة الشمسية في الكفرة والمخيلي وتمنهنت، بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية طموحة، مثل مشروع السكك الحديدية لربط بنغازي بمدينة مرسى مطروح المصرية، مروراً ببلدية امساعد على الحدود الليبية المصرية.
وقبل ذلك بشهرين تقريباً، أبرمت عدد من الشركات الصينية اتفاقاً مع رئيس بصندوق إعادة إعمار ليبيا بلقاسم حفتر، لتنفيذ مشاريع إعادة إعمار بمدينة درنة والمناطق المتضررة من الفيضانات التي ضربت الجبل الأخضر في سبتمبر الماضي. وفي نهاية أكتوبر، صرح وزير الاقتصاد في بنغازي علي السعيد لإذاعة “فرنسا الدولية” بأن “الصين هي اليوم القوة الفعالة التي يمكنها بناء الجسور والبنى التحتية والطرق في وقت قصير جداً”. وبحسب السعيدي، فإن الصين تمول مشروعاً بقيمة 30 مليار دولار في ليبيا لبناء مترو الأنفاق من خلال تحالف “بي إف آي”. وأضاف السعيدي: “في الواقع، هذه معلومات حصرية لا يعرفها أحد سوى وزارتي والأطراف المعنية بالاتفاق”.
تحدٍ لأمريكا
هذا النهج الصيني يشكل تحدياً للنفوذ الأمريكي في ليبيا على عدة مستويات. فمن جهة، يقدم بديلاً اقتصادياً قوياً للشركات الغربية، خاصة في ظل تردد الكثير من هذه الشركات في الاستثمار بليبيا بسبب الوضع الأمني غير المستقر. ومن جهة أخرى، يعزز الوجود الصيني من قدرة ليبيا على المناورة في علاقاتها الدولية، مما قد يقلل من النفوذ السياسي الأمريكي.
ففي الـ14 من يونيو الجاري، حذرت المرشحة لمنصب سفيرة الولايات المتحدة لدى ليبيا جينيفر غافيتو، من التحدي الذي يمثله النفوذ الصيني المتزايد في ليبيا للولايات المتحدة، خاصة في قطاع التكنولوجيا. وقالت: “الشركات المرتبطة بجمهورية الصين حققت اختراقات عميقة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ليبيا، وتهيمن حاليًا على شبكة الجيل الرابع شركات مثل هواوي و ZTE“. ودعت إلى “الدفاع عن الصناعة الأمريكية وتأكيد نقاط الضعف التي تواجهها ليبيا في الاعتماد على موردين غير موثوق بهم لأمنها القومي وبنيتها التحتية الحيوية“.
ففي جلسة استماع مطولة أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، شدد غافيتو على ضرورة تعزيز الوجود الدبلوماسي الأمريكي على الأرض في ليبيا، قائلة: “لكي تقود أمريكا بفعالية، يجب أن نكون حاضرين”. ودعت “لتسريع استئناف عمليات السفارة في طرابلس، بطريقة تعطي الأولوية لسلامة وأمن موظفيهاا وجميع الأمريكيين”. وأضافت أن عدم وجود وجود دبلوماسي دائم “يفسح المجال لمنافسينا الاستراتيجيين النشطين على الأرض،” وعلى رأسهم روسيا والصين.
أكثر استدامة
ومع ذلك، فإن التحدي الصيني للنفوذ الأمريكي في ليبيا يختلف جوهرياً عن التحدي الروسي. فبينما تتبنى روسيا نهجاً عسكرياً وأمنياً أكثر وضوحاً، من خلال دعمها لقوات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر، تركز الصين على الجانب الاقتصادي والتنموي. هذا الاختلاف في النهج يجعل التحدي الصيني أكثر استدامة وقبولاً على المدى الطويل، خاصة وأن ليبيا في حاجة ماسة للاستثمارات والخبرات في مجال إعادة الإعمار.
نموذج تنموي
ويضع تنامي الدور الصيني في ليبيا الولايات المتحدة أمام تحدٍ استراتيجي يتطلب إعادة تقييم لسياستها في المنطقة. فبينما تركز واشنطن على الجوانب الأمنية والسياسية، تقدم بكين نموذجاً تنموياً قد يكون أكثر جاذبية للقيادة الليبية والشعب على حد سواء. وهذا يتطلب من الولايات المتحدة تطوير استراتيجية شاملة تجمع بين الدعم السياسي والأمني والاقتصادي لضمان استمرار نفوذها في هذا البلد الاستراتيجي.
هل تنجح أمريكا؟
ويبدو أن المشهد الليبي يتجه نحو مزيد من التعقيد مع دخول الصين كلاعب اقتصادي قوي. وبينما قد يساهم هذا في تعزيز جهود إعادة الإعمار والتنمية في ليبيا، فإنه يشكل في الوقت ذاته تحدياً جديداً للنفوذ الأمريكي التقليدي. ويبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن الولايات المتحدة من تطوير استراتيجية فعالة للتعامل مع هذا التحدي الجديد، أم أن الساحة الليبية ستشهد تحولاً تدريجياً في موازين القوى لصالح بكين؟