يهتم الأوروبيون بالدرجة الأولى في ليبيا بالهجرة غير الشرعية، وبالتالي يجدون أنه من المناسب التعامل مع وضع شبه فوضوي، والولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء الإرهاب وانتشار المنظمات الإسلامية في أنحاء المنطقة، ولا تهتم بمن يحكم ليبيا طالما تم احتواء الجماعات المتطرفة.
المجلس الأطلسي المعني بالبحث في الشؤون الدولية يرى أن هذا الفراغ لم يدع فقط إلى التدخل الخارجي فحسب، بل قدم روسيا باعتبارها اللاعب الأكثر وضوحًا والمتعطش للسلطة الذي يقف على عتبة ليبيا.
دفع تصاعد الصراع في ليبيا مختلف الجهات الفاعلة الدولية إلى التحالف مع الفصائل المختلفة على أساس مصالحها الاستراتيجية. فمعظم الدول، رغم اعترافها رسميًا بالحكومة، تلعب على كلا الجانبين لصالحها.
المجلس الأطلسي يعتبر فرصة تحقيق الاستقرار في ليبيا كان بفضل دعم القوات التركية لطرابلس، في حين تُركت برقة في أيدي القوات الروسية.
بداية الحكاية
اقتصر التغلغل الروسي في ليبيا على بضع مئات من المدربين لقوات حفتر في عامي 2015 و2016. وفي أواخر عام 2018 فقط تم استبدال هؤلاء الجنود الروس ببضعة آلاف من المرتزقة -معظمهم من الروس- الذين استأجرتهم شركة فاغنر.
ليس فجأة
لم يأت حضور فاغنر فجأة، بل سبق ذلك مغازلة مستمرة من قبل المؤسسة العليا الروسية لحفتر وعائلته وضباطه، ليس فقط من خلال توفير الأسلحة والمعدات السخية ولكن أيضًا من خلال إظهار الدعم العلني لمواقف حفتر ووجهات نظره السياسية، والتي تتمثل بشكل أساسي في طموحه في السيطرة على البلاد كلها.
وبذلك يكون الروس قد أسسوا موطئ قدم قويّ في ليبيا مع نهاية عام 2019 وبداية الهجوم على طرابلس. حدث كل هذا دون أي رد فعل تقريباً من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي، على الرغم من أن ذلك جعل القوات الروسية المسلحة تبعد أقل من بضع مئات من الأميال عن الشواطئ الجنوبية لإيطاليا، الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي.
بعد أوكرانيا
وأصبح هذا أكثر وضوحًا بعد غزو روسيا لأوكرانيا في أوائل عام 2022، حيث بدأ الوجود الروسي في ليبيا يثير بعض الأسئلة بين المعلقين والنقاد والاستراتيجيين العسكريين. ومع ذلك، حتى عند مواجهة هذه الأدلة، يبدو أن صناع القرار الغربيين لا يعيرون هذه القضية سوى قدر ضئيل من الاهتمام.
والحقيقة أن الدبلوماسية الأمريكية والمؤسسة السياسية بشكل عام في السنوات ما بين 2014 و2022 لم تتقبل أي إنذار قادم من ليبيا حيث أنها خرجت عمليا في الغالب بسبب صدمة اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا كريس ستيفنز. في عام 2012. ومنذ ذلك الحين، فضلت الولايات المتحدة تفويض مهمة فك تشابك القضية الليبية إلى الأوروبيين والأمم المتحدة.
حرب طرابلس
وعلى الرغم من وجود الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش في طرابلس في 4 أبريل 2019، في زيارة لرئيس الحكومة فايز السراج، إلا أن حفتر شنت قواته هجوما مفاجئا على طرابلس. ولم يكن رد فعل الولايات المتحدة كافياً، واقتصرت على نشر بعض المذكرات الدبلوماسية التي تحتج على العملية العسكرية.
لقد كان صمتًا عالميًا يصم الآذان في مواجهة عدوان حفتر. وبدا الموقف الأمريكي لحفتر وكأنه ضوء أخضر للهجوم. تم تشكيل العنصر الروسي في قوات المعتدي في المقام الأول من قبل المقاولين جميعهم تقريبًا من القوات الخاصة في موسكو التي استأجرتها مجموعة فاغنر. كان الروس يشكلون الوحدة الأفضل تدريباً وتجهيزاً في جيش حفتر، وكانوا هم الذين قاتلوا بقوة أكبر واقتربوا من وسط طرابلس.
وأجبر تدخل القوات التركية دفاعاً عن الحكومة الشرعية الروس على التخلي عن ضواحي العاصمة والانسحاب خلف خط سرت في منتصف الطريق تقريباً بين طرابلس وبنغازي. وبعد إعلان الهدنة بين الطرفين، بقي حوالي 600 مرتزق روسي فقط في ليبيا، وذلك بشكل أساسي لضمان عدم قيام القوات الليبية الغربية وحلفائها الأتراك بشن هجوم خاطف والتوجه نحو بنغازي.
لغرض مختلف
وفي نهاية عام 2021، بدأت تظهر في الصحافة الغربية تقارير عن توسع القوات الروسية -حيث أصبح من الصعب التمييز بين متعاقدي فاغنر والقوات النظامية- وتم الكشف عن اختراق الروس لأراضي دول الساحل الأفريقي. ظاهريًا لحماية مصالحهم الاقتصادية، بما في ذلك استثمارات التعدين. في حين أن هذا قد يكون صحيحا، إلا أنهم كانوا هناك لغرض مختلف، كما كشفت عنه سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أطاحت بشكل رئيسي بالحكومات الموالية للغرب لصالح الديكتاتوريين العسكريين الذين أظهروا ميولا واضحة مؤيدة لروسيا.
زعزعة الاستقرار
لقد توغل الروس في الأراضي والبيئة السياسية لدول الساحل بهدف محدد وهو التدخل في شؤونهم الداخلية. إن الروس دقيقون للغاية في خططهم لزعزعة الاستقرار لأنهم لا يقتصرون على تغلغل بلد معين في قواتهم المسلحة فقط كما تثبت الحالة الليبية.
يمتد زعزعة الاستقرار إلى المنطقة الاقتصادية أيضًا. بين عامي 2016 و2020، تعاقد فرع مصرف ليبيا المركزي، الواقع في الشرق تحت سيطرة حفتر، مع شركة “جوزناك” المساهمة الروسية المملوكة للدولة لطباعة نسختها من الدينار الليبي رغم أن إدارة حفتر لم يكن لديها الوصول إلى الضمانات، مثل الذهب، في انتهاك صريح لمختلف المعايير الدولية وكذلك قانون البنوك الليبي.
ويرتبط إصدار هذه الأوراق النقدية المزيفة بمليارات الدولارات بالدينار الليبي بخطط حفتر لغزو طرابلس في أبريل 2019، يتضح ذلك من خلال البيانات التي أشارت إلى أنه تم إرسال 4.5 مليار دينار ليبي في أربع شحنات من فبراير 2018 إلى فبراير 2019،
وتشير التقديرات إلى أن الروس أغرقوا السوق الليبية بما يعادل على الأقل من الأوراق النقدية الليبية أكثر من 10 مليارات دولار، دفع معظمها لجيش حفتر والمسؤولين المدنيين.
إن التأثير المزعزع للاستقرار لهذه المناورات لا يحتاج إلى تفسير. كما أن هناك شائعات غير مؤكدة عن تهريب كمية أخرى من الأوراق النقدية المزورة مرة أخرى إلى السوق الليبية مع بداية عام 2024.
رد أمريكي ضعيف
ورغم كل هذه الأدلة، إلى جانب طرد روسيا القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو. والنيجر.، لم يكن هناك حتى الآن أي رد فعل أمريكي سوى بعض الدلائل المتوسطة “غضب” المسؤولين على المستوى ودعواتهم الغامضة لعودة الديمقراطية. مع كل الاستراتيجيات المذكورة أعلاه، تحاول روسيا ترسيخ نفسها كقوة مهيمنة في ليبيا للسيطرة على أراضي البلاد، ومن هناك، إبراز قوتها بأمان نحو دول أخرى في شمال إفريقيا وحتى جنوبا.
حالة شلل
إن الصعود والهبوط في حرب روسيا ضد أوكرانيا، بالإضافة إلى الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر 2023، وبعد أكثر من ستة أشهر من الحرب في غـ .زة مع كل العواقب الدولية التي جلبتها هذه الصراعات، استحوذت على اهتمام الولايات المتحدة حتى أكثر من ذي قبل، ولم تمكنها من الرد على التمدد الروسي.
الحل حكومة موحدة
لكن لا يمكن لواشنطن وحلفائها أن يتجاهلوا بعد الآن أهمية تحقيق الاستقرار في ليبيا من خلال عملية سياسية مستمرة وشاملة وشفافة مصحوبة بعمل قوي للمقاومة والرد على التسلل الروسي من خلال إنشاء حكومة وحدة جديدة في ليبيا يمكن أن تقود الطريق نحو تحقيق الاستقرار في ليبيا. هذا الهدف من شأنه أن يقطع شوطا طويلا في إرضاء السكان وكسب قلوبهم وعقولهم للقيم الغربية.