بين اليوم العالمي للأم، واليوم العالمي لمتلازمة داون..هذه قصة إصرار أُم

كانت بداية رحلة الاندماج التي مرت بثلاثة محطات كما قامت بتسميتها وتصنيفها رئيسة الشؤون العلمية في الجمعية الليبية لمتلازمة داون “فاطمة بن عامر” عندما ذهبت عام 1997 إلى روضة نادي البراعم للفنون طالبةً من إداراتها منح فرصة إدماج لأحد حالات متلازمة داون وهو ابنها “أحمد” الذي ولد في غياب كبير لفرصة عادلة، وقد مرت الرحلة بثلاثة مراحل، نعرضها عليكم كما قصّتها علينا.

بالمحطة الأولى لاقت الأم فاطمة ترحيبًا واسعًا من الإدارة وتجاوبًا من المعلمين، فبدأ أحمد في تلقي تعليمه مع بقية أقرانه وسط مرحلة جديدة من حياته دُمج فيها بشكل عفوي مع زملاءه لمدة عام، ومُن هنا كانت بداية الإلهام!

بعد ما رأت فاطمة النتائج الإيجابية لإدماج أحمد بعد مُضي عام فكرت في “مشروع الإدماج الجزئي” الذي يقوم بتخصيص فصل بالمدرسة لأطفال متلازمة داون فيه يدرسون ويتعلمون، ويشاركون أقرانهم في الاستراحة والرحلات والنشاطات، فطلبت من النادي منحهم فصلا للبدء في المحطة الأولى لرحلة الإدماج، فوافقت الإدارة ومنحتهم فصلاً تكاتفت الجهود فيه بين القيام بصيانته بجهود ذاتية، والبحث عن أطفال متلازمة داون كمرحلة أولية تسبق الانطلاق، وبعد انتهاء العمل انطلق الفصل يوم 30 من مارس لعام 1997 وسُمي بيوم المحبة والاندماج وأصبح يُحتفل به سنويًا كيوم محلي.

بين الإدماج الكُلي والجزئي هل يكفي الإيمان بطفل واحد في إحداث فرقٍ شاسع ؟

تزامنًا مع بدء أطفال “كروموسوم المحبة” في الدراسة بفصل مخصص لهم في صورة اندماج جزئي، كان أحمد لا يتلقى تعليمه مع أطفال متلازمة داون، بل مع الآخرين في صورة اندماج كلي.

تقول فاطمة إن هذه أول دراسة علمية للمقارنة بين الاندماجين ( الكلي والجزئي )، وقد كانت النتائج للكلي مُبهرة، قاموا بالمشاركة بها في أول مؤتمر علمي في ليبيا، وكذلك مالطا..ومن هُنا تكوّن فريق عمل بمجموعة من الأطباء والمعلمين والمختصين، وكانت هذه الخطوة الأساسية في الإدماج، فبعدها بدأ الاستعداد للمرحلة القادمة التي تفوق سابقتها صعوبة.

– المحطة الثانية ( انطلاق الاندماج في التعليم العام )

تُكمل فاطمة سردها قائلة:” عندما وصل أطفالنا عمر المدرسة لم يقلّ إيماني أو تنقص قناعتي بفكرة الإدماج، وفرصة المعادلة” وهذا ما جعلنا نزور مختلف مدارس ومراكز طرابلس، إلى أن استقرّ اختيارنا أخيرا على “مدرسة التقدم” وبعد ذهابنا إليها وعرض الفكرة عليها ثم الاجتماع بالمعلمات لتوضيح آلية الاندماج، بين مؤيد ومعارض، استطعت توحيد صف المعلمات وإقناعهم وكان لا بد من البحث عن معلمة فقبلت الخوض في رحلة الإدماج معي المربية الفاضلة “مريومة اليازجي”، وبمساعدة الأصدقاء والزملاء قررنا أن يكون نموذجي به أربعة طلبة من متلازمة داون، مع 22 من أقرانهم الآخرين، ثم بعد ذلك بدأنا العمل وقمنا بحملات توعوية عن  للتلاميذ والمعلمين، مع مشاركة أطفالنا من متلازمة داون في النادي الصيفي قبل بداية العام الذي كانت بدايته في أكتوبر 1999، تزامنًا مع هذه الأحداث قمت بتحضير رسالة ماجستير عن دراسة علمية في تأثير الاندماج لمتلازمة داون مع الزملاء الآخرين، وعلى العملية التعليمية وقد شملت الدراسة 3 مدارس و300 تلميذ.

بعد إتمامها شاركنا بهذه التجرية في مؤتمر عربي في الأردن، وقد ساهم في نجاح كل الخطوات بدايةً من الإدماج حتى نهاية الدراسة، الإدارة الحازمة برئاسة “زهرة بيزان” والمعلمة المميزة وكذلك التلاميذ والآخرين، والنتيجة كانت ترحيبًا وقبولاً واسعًا للإدماج من الجميع، وبدلاً من مدرسة واحدة و4 تلاميذ ومعلمة وأشخاص داعمين تغيّر الحال وتحول إلى مدارس وعشرات التلاميذ ومعلمات عديدات، وفريق مختص في الدعم والتوعية والتدريب، وكنتاج لكل هذه المجهودات على مر الأعوام والسنوات استمر الفريق والبرنامج في التوسع بخطوات علمية ثابتة ومدروسة، فأقل خطأ يعني العودة إلى نقطة الصفر.

يقولون “من سار على الدرب وصل”، و”لكل مجتهد نصيب”، ونتيجة سير طويل واجتهاد سنين تحولّ العمل من فريق إلى جمعية..

في نهاية الرحلة، تحديدًا بالمحطة الثالثة والأخيرة بدأ التقدم واضحًا وجليًا من فريق تكوّن من مختلف المختصين بالمجالات التي تتعلق بحالة متلازمة داون، فمنهم أطباء وأعضاء هيئة تدريس بالجامعات واستشاريين واختصاصيين وأولياء أمور ومهتمين، مما جعل الإمكانيات والدعم مناسبة لتكوين جمعية بدل فريق، عملت على تثقيف أعضائها بمجهوداتها الذاتية ودعمتهم للسفر لتعلم كل ما هو جديد ومواكبة تطور العالم عما يدخل في دائرة اختصاصهم، ويومًا بعد يوم كانت الإنجازات تسجل في تاريخهم.

تقول فاطمة عما أنجزوه:”تكوّنت لدينا قاعدة معلوماتية حديثة وتجاوزت حتى اليوم البرامج المترجمة والتطبيقية 50، مثل دوائر الأمان لحماية حالات متلازمة داون من اللمسات غير المناسبة، وكذلك وسيلة “دودي” التعليمية ووسيلة “الفراشة البارعة”، لدى الجمعية اليوم أكثر من 60 بحثا ورسالة في المكتبة المقروءة والإلكترونية، كما تشرف الجمعية على رسائل الماجستير والدكتوراة، والدبلوم العالي ومشاريع التخرج عن متلازمة داون، كذلك تعدّ الجمعية من ضمن الكونجرس الدولي بعد زيارة فريق منه للجمعية وتقييمها، كذلك كلفت الجمعية بقرار وزاري بوضع سياسة الاندماج للفئات الخاصة بالتعاون مع وزارة التعليم وصندوق التضامن الاجتماعي…وكل ذلك بفضل الله ودعم أسرتي وزوجي “فوزي آدم” رئيس مجلس الإدارة للجمعية، والمدير التنفيذي “آمال الفقيه” وأولياء الأمور وزملائي من الذين تعاونوا معي وآمنوا بذات القضية.”

وليس ذلك فحسب، فالجمعية تعمل اليوم على برنامج يُعرف باسم ( التدخل المبكر مع الأمهات الجدد ) وفيه تأتي الأسر بمولودها لإعدادهم وتدريبهم على دعم أطفالهم ودعمهم من قبل استشاريين واختصاصيين، وكذلك في حملات التوعية عن متلازمة داون، وبرامج أخرى، وكذلك تسجل نجاحًا جديدًا في الاندماج، فأول قفزة نحو الاندماج للتعليم الثانوي كانت في عام 2021، بينما كانت أول مرة للاندماج بالمعاهد في عام 2011.

في رحاب قصص بعض النجاحات التي قد نراها عادية في ظاهرها عظةٌ وعبرةٌ، سعيٌ واجتهادٌ، تمكينٌ وعملٌ، تميزٌ وانفرادٌ يجعلنا ندرك ونؤمن أن الكواليس قصة أخرى! أكثر إلهامًا وجمالاً…في قصة الجمعية الليبية لمتلازمة داون من كان يتوقع أن إيمان أُم، مع كروموسوم زائد واحد “كروموسوم الحُب” سيترُك أثرًا جميلاً بهذا القدر، وسيكون دافعًا لكل هذا العمل الذي ساعد المئات من حالات متلازمة داون في الاندماج الطبيعي مع بقية أقرانهم في المجتمع.

هذه قصة فاطمة، أُمٌّ آمنت بأن ابنها يستحق حياة أفضل، فعمِلت بجدٍّ لتغيير مجريات الحال والأحداث، ممّا جعل الآتي، أفضلَ من الذي قد فات.

أخبار ذات صلة

مبادرة ستيفاني.. هل اصطدمت بـ”فيتو” روسي؟

تقرير أمريكي: استقرار ليبيا يعتمد على حياد المؤسسات الاقتصادية

الأسود: ربما تتفق روسيا معنا في أن مبادرة خوري غير واضحة الرؤية