مع الجدل الذي أثير في المدة الماضية ولا يزال صداه يتردد في الأوساط الحكومية والشعبية، حول عزم السلطات رفع الدعم عن المحروقات واستبداله بمبالغ مالية، يُظهر تقرير استقصائي غربي التجاوزات التي تحدث في قطاع الطاقة وتحويل جزء من إنتاجه إلى سلعة في السوق السوداء الدولية، وتتحكم فيه مافيات الحروب، وارتداد هذه العمليات غير القانونية على ليبيا وأوروبا.
ومع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وفرض الدول الغربية عقوبات على موسكو، زاد ذلك من تهريب الوقود الليبي من بنغازي بشكل ملحوظ منذ فبراير 2022، وفقا لديوان المحاسبة، وتقرير نشره فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، ويقود عمليات تهريب المحروقات في المنطقة الشرقية رجال موالون للقيادة العسكرية، انطلاقا من ميناء بنغازي الخاضع لسيطرة قائد “القيادة العامة” خليفة حفتر، وهو الميناء الذي تشحن منه السفن حمولتها، وما أكده مسؤولون بحريون، وأمنيون محليون، إلى جانب دبلوماسيين غربيين، إنه لا يحدث الكثير في المنطقة الشرقية إلا بموافقة ومعرفة حفتر الذي يسيطر على شرق البلاد وجنوبها.
وكشف دبلوماسيون غربيون، ومسؤولون ليبيون أن صفقة ما أبرمت -وإن ضمنا- مفادها السلام مقابل السماح باستئناف إنتاج النفط الخام، ما أجبر المؤسسة الوطنية للنفط على غض الطرف عن عمليات تهريب الوقود من شرق ليبيا، مؤكدين أن حفتر يستفيد من التهريب في ميناء بنغازي، ويشتبهون في أن العائدات تستخدم جزئيا في تمويل قوات مجموعة فاغنر العسكرية الروسية، التي تواصل التمركز في ليبيا بعد وفاة مؤسسها يفغيني بريغوجين، ولم يستجب حفتر ولا نجله صدام لبند اتفاق وقف إطلاق النار القاضي بإبعاد المرتزقة والمقاتلين الأجانب عن ليبيا.
وتغادر ميناء بنغازي ما يصل إلى 4 سفن أسبوعيا محملة بالوقود المهرب في العام الماضي، وفقا لمسؤول مطلع على عمليات في الميناء، طلب عدم الكشف عن هويته، في سبتمبر وأكتوبر توقفت 6 سفن على الأقل في روسيا، وانتقلت لتفريغ حمولتها في بنغازي والموانئ الليبية الأخرى، بحسب بيانات تتبع السفن، إلى أن سفينة “الملكة ماجدة” شاركت في نقل شحنتين غير قانونيتين، حملتا من ميناء بنغازي لتفرغ حمولتها من الوقود في تركيا، ولم تستطع المؤسسة الوطنية للنفط منع حدوث ذلك من ميناء بنغازي البحري، أو أن تنتقدها.
وتشير البيانات أن الناقلة المسماة “الملكة ماجدة” تهرب الوقود الليبي إلى تركيا واليونان ومالطا وإيطاليا وألبانيا، وتتعمد أثناء التهريب إيقاف نظام التعرف الآلي، أو AIS، وإخفاء البيانات وفقا لشركة MarineTraffic، وهي شركة تعقّب دولي لتحركات السفن. وفي 24 مايو، تظهر وثائق شحن أن تحميل الوقود من بنغازي بشهادة منشأ من رأس المنقار المحطة التي أنشئت فقط لاستقبال الوقود، وليس لشحنه أو تصديره.
في مايو 2022، لاحظ مسؤولو مؤسسة النفط الوطنية وجود نمط من تجارة الوقود المهربة من ليبيا إلى تركيا لكنهم لم يتمكنوا من إيقافها وفقا لمستندات ووثائق إلى النائب العام، من رئيس مجلس الإدارة آنذاك صنع الله خص بالذكر ثلاث سفن، بما في ذلك “الملكة ماجدة”، بتهمة شحن الوقود غير القانوني وحثت المدعي العام لاتخاذ الإجراءات.
لقد تفاقمت المشكلة منذ انهيار النظام السابق عام 2011، مما أدى إلى صراع مستمر بين المنافسين، الفصائل العسكرية وأمراء الحرب والشبكات الإجرامية، ففي عام 2017، كشف المدّعون العامون في إيطاليا ومالطا عن جريمة دولية بقيام شبكة بتهريب وقود الديزل إلى السفن في مالطا وفي النهاية إلى السوق الأوروبية، وترتبط القضية بلاعب كرة قدم مالطي سابق، وميليشيا ليبية مسلحة، وشركة شحن إيطالية والمافيا.
ومع رخص المحروقات في ليبيا وغياب القانون فإن المستفيدين من تهريب الوقود قد ازدادوا، وخاصة من الجماعات المسلحة التي تتاجر فيه، ومع فقدان السيطرة المركزية على مفاصل الدولة تصبح أكثر فأكثر جريمة غير محلية تتورط فيها سلطات ليبية وأجنبية وتكون قضية فساد عابر للحدود.
مع عدم ضبط الحدود، وتقنين عمليات التوزيع ومراقبتها، وتتبع الشحنات على المحطات، تصبح البلد أمام خيارين مجهولة عواقبهما، أولهما: استبدال الدعم للمحروقات بالنقد، أو تقنين بيع المحروقات بمنظومات إلكترونية عن طريق بطاقات ذكية، وثانيهما: الاستمرار في الدعم الذي يصاحبه التهريب والاستفادة لتجار الجريمة الدولية المنظمة.