ليبيا والحرب ضد الفساد، ورم يستشري واستجابة ضعيفة للمقاومة 

لا شك أن الانقسام المؤسساتي والصراع بين الشرعيات الذي تعيشه البلاد منذ سنوات قد خلق مناخًا مناسبًا لتفشي الفساد، مستفيدًا من ضعف إنفاذ القانون وإفلات الجناة من العقاب. ولا شك أيضًا أن الحرب ضد الفساد في ليبيا لا تزال متواصلة رغم تذبذب وتيرتها، فأحكام السجن لم تتوقف عن إدانة المتورطين في قضايا اختلاس المال العام واستغلال المناصب والصفات والتهريب.

هذه الظاهرة التي نخرت جسد الدولة الليبية وعششت في مختلف هياكلها ومؤسساتها داخل وخارج حدودها ألقت بظلالها على قطار التنمية الذي ظلت حركته بطيئة، وعلى الواقع المعاش للمواطنين الذين رفعوا أصواتهم مطالبين بالضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين.

قبل بضعة أيام أصدر مكتب النائب العام أحكاما بالسجن في أكبر قضية تهريب ذهب في تاريخ ليبيا شملت مدير عام مصلحة الجمارك وقيادات عمل المصلحة في مطار مصراتة الدولي بتهمة التآمر لتهريب قرابة 26 طن من سبائك الذهب. وأذنت النيابة بحبس المسؤولين في عملية التهريب التي بلغت قيمتها المالية 1.8 مليار دولار.

قبل شهرين فقط، كشفت التحقيقات القضائية عن تورط رئيس مركز جمرك رأس جدير الحدودي، ورئيس مجلس إدارة أحد فروع مصرف اليقين، ونائبه في قضية تزوير اعتمادات بنكية بقيمة مليار و200 مليون دولار، وقد قررت النيابة العامة حبس 15 متورطًا في هذه القضية. كما كشفت تقارير وحدة المعلومات المالية التي تقوم بفحص عمليات البنك المذكور عن تورط مسؤولين آخرين في تحقيق كسب غير مشروع لأصحاب 49 شركة بقيمة جملية تتجاوز 20 مليون دولار.

هذه القضايا ليست معزولة عن واقع انتشار الفساد في ليبيا فقد أفضى تحقيق قضائي نشرت أحكامه اليوم إلى حبس رئيسين سابقين لمجلس إدارة جهاز الطاقات المتجددة ومدير سابق لفرع المصرف التجاري الوطني ومتورطين آخرين في قضية اختلاس مبلغ 81 مليون يورو.

الإثراء غير المشروع وتحقيق المكاسب خدمة للمصلحة الخاصة على حساب الدولة شمل أيضًا مسؤولي السفارات الليبية لدى الدول الأخرى، فقد صدرت أحكام بالسجن في حق ممثلين دبلوماسيين للدولة على غرار مسؤول بالبعثة الليبية لدى السودان بتهمة الاستيلاء على أموال مقطوعة لطلاب موفدين للدراسة، والسفيرة الليبية لدى بلجيكا التي عمدت إلى استصدار فواتير علاج بأسماء وهمية للحصول على تحويل مبلغ قدره 200 ألف دولار إلى حسابها الخاص.

أحكام السجن التي أصدرتها النيابة في علاقة بقضايا اختلاس المال العام أشعلت غضب الرأي العام حول حجم ومستويات الفساد في البلاد خاصة وأنها طالت مسؤولين حاليين وسابقين في الدولة بينهم وزراء وأعضاء ورؤساء بعثات دبلوماسية حاليين وسابقين، ومراقبين ماليين في سفارات ليبيا في عدد من الدول من بينها قطر وأوغندا وجنوب أفريقيا وأوكرانيا، حيث تنوعت التهم الموجهة إليهم بين تحقيق منافع غير مشروعة والإضرار بالمال العام والتآمر للحصول على النقد الأجنبي وتعمُّد إساءة استعمال السلطات الوظيفية والتعدي على مخصَّصات تقديم الخدمة الطبية والإيفاد للدراسة وغيرها.

الحرب ضد الفساد لم تطل المفسدين في القطاع الحكومي فحسب بل طالت يد المحاسبة المهربين والعصابات الذين يزاولون أنشطة خارج الأطر القانونية المحلية والدولية كتجارة المخدرات والتهريب، حيث صدرت خلال أبريل الماضي أحكاما بالسجن ضد عصابة تورطت في محاولة تهريب 269 كيلو غرامًا من مخدر الكوكايين إلى ليبيا عبر ميناء الخمس.

بحسب التقرير السنوي لمصرف ليبيا المركزي فقد بلغت تكلفة تهريب الوقود 6 مليار دولار في عام 2022 فقط، دون احتساب مليارات الدولارات التي تديرها عصابات التهريب التي يتركز نشاطها على الحدود ومع شركاء من خارج الوطن.

كشف آخر تقرير لديوان المحاسبة لعام 2022 عن استشراء الفساد في القطاع الحكومي حيث فصّل التقرير مختلف حيثيات التجاوزات التي تمثلت في إهدار المال العام من خلال التوسع في عقود التوريد والخدمات دون حاجة فعلية، وتضارب المصالح بين العمل الحكومي وامتلاك الشركات التي تتعامل مع القطاع نفسه.

هذا بالإضافة إلى عمليات الاختلاس عبر العقود الوهمية ودفع قيمة خدمات غير مسداة والتصرف غير القانوني في المال العام لتحقيق مكاسب شخصية أو للغير.

كما تناول رصد التقرير التلاعب والاستحواذ غير المشروع على مالية الدولة والتفريط فيها عبر تحويل الأموال دون ضمانات والاستيلاء عليها من خلال تسديد مرتبات وهمية، بالإضافة إلى الإسراف في النفقات بالفنادق وتذاكر السفر والاستهتار به عبر توقيع الصكوك دون أساس قانوني.

انطلقت هذه الحملة منذ سنوات لكبح جماح المارقين عن القانون والآكلين من جسد الدولة إلا أنها تحتاج نفسا طويلًا، فلا يمكن القضاء على عصابات الفساد وثقافته المستشرية التي تمكنت من مفاصل الدولة حتى كادت أن تصبح هي الدولة إلا عبر اعتماد استراتيجية وسياسة عامة تهدف إلى القضاء على هذه الظاهرة واجتثاث مظاهرها.

وفي محاولة تشريعية عين مجلس النواب أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد عام 2014 لوضع خطة لمكافحة هذه الآفة.

من جهة أخرى تعهد كبار المسؤولين في الدولة منذ سنوات بمحاربة الفساد ودعم الهيئة، حيث تعهد رئيس حكومة الوحدة، عبدالحميد الدبيبة، عام 2021 خلال زيارة إلى مقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في طرابلس، بضرورة تذليل الصعاب التي تواجهها الهيئة حتى تتمكن من أداء المهمة الموكلة لها.

ولعل آخرهم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح الذي دعا إلى تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد خلال لقائه في مقر البرلمان في بنغازي برئيس الهيئة أجديد معتوق أجديد. بدوره أكد المجلس الأعلى للدولة في وقت سابق أن “الوباء المستفحل” يقصد الفساد ضرب أطنابه في شتى المجالات وأصبح من أهم التحديات التي تواجهها ليبيا.

لا تزال الأرقام المحلية والدولية تشير إلى وقائع فساد واسعة في ليبيا تحتاج إلى مواجهة حقيقية لهذه الظاهرة، فبحسب التقرير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية نهاية 2023، حلَّت ليبيا في المرتبة 172 من بين 180 بلدا وهي بذلك تصنف ضمن الدول التسع الأكثر فساداً في العالم.

وفي عام 2022 تقدمت ليبيا درجة واحدة في المؤشر حيث حصلت على المركز 171 عالميا، وحصدت 17 درجة فقط على المقياس الدولي، وهو ما يعني أنها رغم الإجراءات المتخذة والمؤسسات المختصة للقضاء على هذه الظاهرة إلا أنها لا تزال تعاني من فساد واسع وكبير.

وترجع المنظمة الدولية سبب انتشار الفساد في ليبيا إلى مشاكل تتعلق بالأمن والنزاع السياسي الحاصل في البلاد منذ سنوات، والذي عمق من حجم الفساد وخلق أوضاعًا سياسية وأمنية هشة للغاية حيث باتت الدولة عاجزة عن مواجهة الفساد بشكل شامل.

كما أشارت المنظمة إلى أن الغياب المستمر للاستقرار في البلاد حرمها من إجراء الانتخابات ولم يترك لها مسارًا واضحًا للمُضيّ قدما نحو بناء الدولة.

ويبدو أن تجذر الخلافات السياسية والتهديدات الأمنية في ليبيا سيطيل أمد هذه الظاهرة التي أرهقت البلاد وكبدت شعبها خسائر بالمليارات، بالإضافة إلى تعطيلها لمسار الإصلاح والتنمية لسنوات.

أخبار ذات صلة

جوناثان وينر: إبقاء الكبير في منصبه يصبُّ في مصلحة تركيا

قلق دولي من الوضع في ليبيا ودعوة لحكومة موحدة

حقل الشرارة.. هل عاد للإنتاج مرة أخرى؟