ليبيا وتونس أمام خطر داهم من الجنوب

ما فتئت أزمة الهجرة غير النظامية، في دول شمال إفريقيا، تتفاقم أسبوعا بعد آخر، حاملة في طياتها أحلاما لم تكتمل بالوصول إلى أوروبا، وملقية بثقلها على حكومات وشعوب ليبيا وتونس خاصة، على اعتبار أنهما منطقتي عبور إلا أن إقامة المهاجرين فيهما باتت تطول لأشهر وسنوات، الأمر الذي يزيد في تعقيد الوضع الاقتصادي والسياسي فيهما، وكذلك الأمني.

قيس سعيد

يتواصل الجدل في تونس بشأن أزمة المهاجرين غير النظاميين القادمين من الدول الإفريقية قاصدين “الحلم الأوروبي” دول الضفة الشمالية من المتوسط، وذلك على خلفية التدفق الكبير للمهاجرين، حيث ارتفعت أصوات المنظمات الحقوقية بـ”الهجمة العنصرية ضد المهاجرين”، التي أشعلتها تصريحات الرئيس قيس سعيد التي أعقبت انقساما في صفوف الشعب بين مدافع عن حرية التنقل ومعارض لما يوصف بـ”التوطين” على الأراضي التونسية. واتهم سعيد في شهر فبراير من العام الماضي جهات لم يذكرها، بأنها رتبت لعمل إجرامي تم إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، مؤكدا أن أطرافا قد تلقت أموالا طائلة منذ 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس داعيا إلى ضرورة وضع حد لهذه الظاهرة في ظل استمرار جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء خاصة، وقد رافقتها أعمال عنف وجرائم جعلت المهاجرين أحيانا في موضع اتهام وملاحقات قضائية.

وفي الآونة الأخيرة، حثّت بعض الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي السلطات على التدخل لمنع المهاجرين الأفارقة من السفر عبر تونس، في طريقهم إلى أوروبا، أو من الاستقرار في البلاد مثلما يفعل الآلاف منهم، حيث مثلت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأشهر الماضية “حلبة صراع” بين وجهات النظر المتصارعة بخصوص إقامة الأفارقة بتونس أو ما أصبح يعرف بـ”توطينهم”، بين فئة داعمة لقرار الرئيس التي تضمن ترحيل أعداد منهم وأخرى مدافعة عن حقهم في حرية التنقل إلى تونس ومنها إلى أوروبا مبررة موقفها بأنهم لا ينوون الاستقرار بها.

الوضع في ليبيا مختلف عن تونس التي تشهد استقرارا سياسيا نسبيا، حيث من المنطقي أن يساهم عدم الاستقرار في ليبيا ودول الجوار، تشاد والنيجر، وخاصة السودان التي تعيش على وقع حرب في ارتفاع موجة الهجرة القصرية هربا من جحيم الصراعات المسلحة، فما تعيشه البلدان الأفريقية من عدم استقرار تسبب في هجرة الآلاف خاصة إلى ليبيا، البلد الأقرب للنجاة بحياتهم من محرقة الحرب الدائرة هناك.

 

ليبي تونسي

أمام تهديدهما من نفس الأزمة قررت ليبيا وتونس العمل المشترك لمجابهة الخطر القادم من الجنوب، وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي، صرح أنه توصل مع نظيره التونسي، إلى حل توافقي لإنهاء أزمة المهاجرين العالقين على الحدود بين البلدين.

وكانت وزارة الخارجية التونسية، قبل هذا التصريح، قد شددت على أن تونس لن تكون دولة عبور ولا توطين للمهاجرين غير النظاميين، مع التزامها باحترام جميع الاتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية المنظمة للهجرة وقواعد القانون الدولي الإنساني.

 

دول العبور

بتفويض غير معلن من الاتحاد الأوروبي تولت روما التنسيق مع دول العبور، ليبيا وتونس، وتقديم المساعدات المالية والتقنية من أجل وقف نزيف وصول المهاجرين إلى سواحل أوروبا، وهو ما ترجمته الزيارات المتتالية لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ولقاءاتها مع كبار المسؤولين في البلدين، حيث التقت لأكثر من مرة في ليبيا برئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة في الغرب وقائد القيادة العامة خليفة حفتر في الشرق، والتقت في تونس بالرئيس قيس سعيد وكان ملف المهاجرين يتصدر في كل مرة المباحثات بين الثلاثة. زيارات ميلوني أنتجت اتفاقا ثلاثيا بين ليبيا وتونس والجزائر، انطلق من قمة تونس التي عقدت في شهر مايو الماضي، وركز بيانها الختامي على تعهد الدول الثلاث على العمل المشترك على تعزيز أمن وحماية الحدود المشتركة ومزيد التصدي لظاهرة الهجرة.

وعلى الرغم من أن تونس حاولت في البداية أن تدفع المهاجرين الأفارقة للعودة إلى ليبيا عبر تسهيل دخولهم كما فعلت الجزائر مع تونس، إلا أن هذه الطريقة لم تُؤت نتيجة فالمهاجرون اختاروها نقطة انطلاق لهم نحو أوروبا لقربها الجغرافي خاصة من الحدود الساحلية الإيطالية. وأمام تدهور وضعها الاقتصادي وغياب حلول عاجلة وفي ظل تواصل الاحتجاجات ضد النظام، إضافة إلى غياب استراتيجية أمنية محلية لمعاجلة أزمة المهاجرين، قررت تونس دخول بيت الطاعة الأوروبي، وإمضاء اتفاقات مع إيطاليا، فرض من خلالها الاتحاد الأوروبي التعامل مع هذه الظاهرة والتعاطي معها أمنيا ومنع الأفارقة من الهجرة نحو دول الشمال.

 

أرقام متضاربة

لا تملك أي جهة حكومية في تونس أو منظمة غير حكومية ولا حتى المنظمات الدولية إحصائيات حقيقية حول عدد المهاجرين غير النظامين، إنما هي أرقام تقريبية يتم تحديثها باستمرار.

وحول أعداد المهاجرين قال مسؤول الإعلام بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية) إنه من الصعب تقديم عدد ثابت، بسبب الديناميكيات المستمرة للدخول والخروج من الأراضي التونسية، ما يجعل حصر الأرقام أمرا صعبا.

وفي العام الماضي، خلال جلسة أمام البرلمان، قدم وزير الداخلية إحصائيات تفيد بوجود حوالي 86 ألف مهاجر، إلا أن المنتدى التونسي اعتبر أن هذا الرقم مبالغ فيه، وأن عدد الأفارقة في تونس أقل من ذلك بكثير.

أما في ليبيا فقد كشف عضو مجلس الدولة الاستشاري سعد بن شرادة في تصريح لموقع “اندبندنت” أن عــدد المهاجريــن قد بلغ 2.5 مليون مهاجر غير نظامي قادم من دول إفريقيا يتركز أغلبهم في مناطق الجنوب الليبي.

وتفيد إحصائيات المنظمات المدنية ووزارة الداخلية في إيطاليا أن 90 بالمئة من أعداد المهاجرين الواصلين إلى السواحل الإيطالية في السنوات الماضية جاؤوا عبر الأراضي الليبية.

 

الرؤية الأوروبية

 

عندما أيقن الاتحاد الأوروبي أن تونس بمفردها لن تحقق له هدفه في التصدي للمهاجرين، سارع بإشراك ليبيا في الموضوع وبدرجة أقل الجزائر بجمع قادة هذه الدول وأجهزتها الأمنية وتقديم مقترحات للتصدي للمهاجرين.

ويعتمد الاتحاد الأوروبي بقيادة إيطاليا على مقاربة جديدة لمقاومة الهجرة والحد منها عبر اعتماد أسلوب مزدوج يقوم على المناولة عند المعالجة الأمنية للظاهرة عبر إغراء دول شمال إفريقيا ماديا لتكون حرسا لحدوده بالإضافة إلى سعيه لتصنيف هذه الدول بمثابة الدول الآمنة وهو ما يمكنها من ترحيل المهاجرين إليها.

أبرمت تونس وإيطاليا اتفاقا لا يزال مضمونه إلى اليوم مجهولا رغم المطالب الشعبية بالكشف عنه، إلا أن الواقع كشف على ما يبدو، أنه تضمن تخيير تونس بين إبقاء المهاجرين على أراضيها أو التصرف معهم بالطرق التي تراها مناسبة لأمنها واستقرارها.

ولصد قوارب المهاجرين القادمين إليه، أطلق الاتحاد الأوروبي عام 2014، برنامجا لتدريب وتجهيز قوات خفر السواحل الليبية، بهدف إيقاف نزيف وصول المهاجرين إلى السواحل الأوروبية. ومنذ 2014، بدأ خفر السواحل الليبي بتجميع المهاجرين الذين يتم القبض عليهم في مياه المتوسط، في مراكز خاصة بإيواء المهاجرين غير النظاميين.

ويواصل الاتحاد الأوروبي من وراء إيطاليا متابعة الملف مع السلطات في ليبيا شرقا وغربا بمتابعة كيفية التعامل مع المهاجرين ومنع وصولهم إلى الحدود عبر تقديم دعم مادي وتقني موجه خاصة لخفر السواحل من أجل التعامل مع أعداد المتوجهين إلى البحر في سفن الهروب إلى أوروبا، دون أن تكشف الخطة الأوروبية عن مراحلها القادمة في ليبيا، إما أن توصي بتوطينهم هناك أو أن تترك لليبيا الخيار في ترحيلهم إلى بلدانهم، الأمر الذي يعد صعبا في ظل الظروف الحالية على الأقل.

وبنفس الخطة أوصت رئيسة الوزراء الإيطالية تونس بالتعامل مع المهاجرين على أراضيها دون السماح لهم بالتوجه إلى الضفة الأخرى من المتوسط، حيث تقوم السطات التونسية بتجميع المهاجرين في مراكز إيواء في مرحلة أولى، ثم تقوم بترحيلهم على دفعات إلى الحدود مع ليبيا وتجبرهم على دخولها عبر منافذ صحراوية، مجهولة المصير، الأمر الذي كشفته عدة مقاطع فيديو انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

الحلول مفقودة

لا يزال الخطر محدقا بتونس، ما دامت جحافل المهاجرين “الأفارقة” تصل إليها بالآلاف في ظل استمرار الأزمات السياسية في عدد من الدول الإفريقية على غرار السودان، في مقابل عدم وجود رؤية تونسية واضحة لصد هذا “الزحف الجنوبي”، فمن الواضح تخبط السلطات التونسية في معالجة أزمة المهاجرين وعدم قدرتها أمنيا على التعامل معها، خاصة ما تم تناقله في الأشهر السابقة من مقاطع فيديو لتعامل رجال الأمن مع أكبر تجمع للمهاجرين في ولاية صفاقس.

وما زاد من خطورة الوضع وقوع ضحايا من الأمن والمواطنين في أكثر من مناسبة بسبب تهجم المهاجرين عليهم.

في كلتا الدولتين، ليبيا وتونس، يعيش المهاجرون مصيرا مجهولا بين البقاء دون وضعية قانونية أو الاستغلال من قبل شبكات الاتجار وتهريب البشر، ما يسمح للسلطات بالتعامل معهم وفق ما تراه صالحا لأمن واستقرار البلدين.

ومع ارتفاع أعداد المهاجرين بمفعول الحروب والأوضاع غير المستقرة في عمق إفريقيا، يزداد الخطر على ليبيا وتونس في ظل إرغامهما من إيطاليا على التعامل معهم على أراضيهم.

 

لماذا تونس؟

منذ نحو عقد من الزمن أغلقت الدول الأوروبية الطرق التقليدية للهجرة في شرق حدود دول التكتل وغربها وشددت المراقبة على السواحل الليبية، إلا أن المهاجرين وجدوا طريقاً بديلة وناشئة عبر تونس مستغلين هشاشة الأوضاع في البلاد والأزمة السياسية، عكس ذلك سوء إدارة السلطات لهذا الملف، وهو ما فجر أزمة اجتماعية مع مهاجري جنوب الصحراء في فبراير 2023”.

وشهد العام الماضي طفرة في عدد المهاجرين الذين حاولوا عبور المتوسط خلسة، حيث أفادت السلطات التونسية أن الحرس البحري منع حوالي 55 ألف مهاجر من دول إفريقيا جنوب الصحراء من الوصول إلى السواحل الأوروبية، وإيقاف ما يفوق 1600 من وسطاء ومهربي البشر ومداهمة العشرات من ورش صناعة قوارب التهريب.

 

أصل الحكاية

بدأت حكاية “الهجرة نحو الشمال” زمن الثورة الليبية بتدفق الآلاف من الأفارقة هربا من جحيم الحروب وتم تجميعهم في مخيمات في مدينة بن قردان، مخيم الشوشة” قبل أن ينتشروا في المدن التونسية أمام عجز المنظمة الدولية للهجرة والسلطات التونسية في إيجاد حل لهم.

وكانت السلطات التونسية في تلك الفترة رافضة بشكل قطعي لمقترحات الاتحاد الأوروبي بتوطينهم مقابل الحصول على دعم مالي مغر من الاتحاد الأوروبي، حيث تضمن المقترح الأوروبي بناء مخيمات للمهاجرين في مرحلة أولى لحصرهم وتنظيمهم إداريا، ثم في مرحلة ثانية إدماجهم في المجتمع التونسي، وذلك مقابل دعم مالي لتونس لتخطي أزمة عجر موازنة البلاد والوضع الاقتصادي المتردي.

وكشف تقرير الاتحاد الإفريقي الصادر في 2018، حول انفتاح الحدود بين دول الاتحاد أن تونس تسمح لمواطني 23 دولة إفريقية لدخول أراضيها دون تأشيرة.

هذه الأسباب شجعت على أن تكون تونس وجهة للمهاجرين الأفارقة وما يزيد الطين بلة والأمور تعقيدا، الترابط الوثيق بين شبكات تهريب البشر والاتجار بهم، فقد كشفت تقارير منظمات غير حكومية تونسية وفي ليبيا أيضا وجود عصابات تتكفل بنقل المهاجرين عبر الحدود بين دول القارة الإفريقية في عملية اتجار كاملة الأركان فيها النقل داخل دولة ما أو بين الدول ودفع مبالغ مقابل ذلك.

 

من أين أتوا ؟

تعيش أغلب الدول الإفريقية على وقع أزمات سياسية وأمنية تدفع بالشعوب لاختيار الهجرة الطوعية والقصرية إلى ليبيا، أقرب الدول إليهم عبر تشاد والنيجر والسودان لالتصاق الحدود الممتدة على آلاف الكيلو مترات.

علاوة على الأزمات السياسية والأمنية في دول وسط وساحل إفريقيا، تعيش هذه الدول أزمات أخرى تتعلق بتردي الأوضاع الاقتصادية وتردي مستوى المعيشة وانتشار المجاعات والأوبئة ما يجعل الهجرة حلا مناسبا لتحسين ظروف العيش بالسفر بطرق غير نظامية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط مرورا عبر ليبيا في مرحلة أولى ثم تونس.

ورغم أنه ليس لتونس حدود مباشرة مع دول إفريقيا فالدخول إليها لا يكون إلا عبر حدود ليبيا والجزائر بالإضافة إلى حدودها البحرية المؤدية للشمال بما تجعلها قبلة للراغبين في الهجرة، فهي محطة ثانية بعد ليبيا.

الجزائر، وإضافة إلى أعداد المهاجرين الواصلين إليها أقل بكثير، هي الأخرى وجهة للقادمين من دول الجنوب، لكنها فهمت “لعبة التهريب والتوطين” مبكرا فعملت على تسهيل دخول المهاجرين إلى تونس لتتفادى تداعيات بقائهم فيها، فقد تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو حول نقل السلطات الجزائرية للأفارقة بعد تجميعهم والسماح لهم بالدخول خلسة للتراب التونسي.

 

نظرية المؤامرة

كثيرا ما يلوح الرئيس التونسي قيس سعيد في خطاباته بأن “هجمة المهاجرين” هي مشروع تم التخطيط له فيما يصفه بـ “الغرف المظلمة” مستدلا في ذلك على التحويلات المالية “المشبوهة” التي يتلقاها المهاجرون من مصادر مجهولة تسهل لهم البقاء في تونس تضمن لهم دفع مبالغ الإيجار والمعيشة، وقد فتحت السلطات التونسية تحقيقا حول تحويل مبالغ مالية هامة وبصفة دورية تصل لأشخاص من أصل إفريقي.

وعندما طفحت أزمة المهاجرين على السطح في تونس خلال الأشهر الماضية، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تكشف امتلاك عدد من المهاجرين لمبالغ كبيرة من الأموال ومنها ما هو بالعملة الصعبة من دولار وأورو، واتهام الدولة التونسية لأطراف بالوقوف ورائهم ودعمهم من أجل توطينهم بتونس.

ومع صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي، ومعادات القيادات الأوروبية للمهاجرين يبدو أن قضية المهاجرين ستشهد فصلا آخر من التعقيد يلوح في الأفق.

مما قد يفجر أزمة بين دفتي المتوسط في المستقبل القريب عدم استقرار دول العبور، ليبيا وتونس، سياسيا وأمنيا، في ظل تواصل الأزمات في دول المنشأ.

أخبار ذات صلة

مصرف ليبي يحصل على جائزة أفضل تخطيط استراتيجي لنمو الأعمال

مهرجان “درنة الزاهرة” ينهي مشواره بتوزيع الجوائز والتكريم 

ليبيا تشارك في حوار الطاقة الإقليمي والدولي بإسطنبول