820
كانت ليبيا خاضعة للسلطة القبلية قبل وصول السّنُوسيّة في أوائل القرن التاسع عشر، وكانت مراكزها السكانية الوحيدة على طول الساحل ملاذا آمنا للقراصنة.
بدأت ملامح دولة ليبيا تتشكل مع وصول مؤسس الحركة السّنوسيّة محمّد بن علي السّنُوسي إلى ليبيا قادما من مسقط رأسه الجزائر، إذ لمس بها تفككا اجتماعيا وعدم استقرار سّياسي، فقرّر الاستقرار في هذه البقعة من العالم، بعد أن جاب بلدانا عدة.
هدف السنوسي كان أبعد من السياسة، حيث ركّز على الدور التعليمي والديني والتربوي والاجتماعي، وحافظ خلفاؤه على نهجه، وقاموا ببناء الزوايا والأماكن التدريبية المحصنة الّتي مثّلت مواقع عسكرية ومؤسسات تعليميّة، وفتحت الحركة السّنُوسيّة المجال أمام قوافل التجارة إِلى أفريقيا ووفرت الحماية الكاملة لها، واهتمت بالتعليم وتحسين أوضاع الناس ومحاربة البدع والانحرافات، وهزمت العصابات الّتي عانت منها ليبيا داخليا.
وفّرت السّنُوسيّة الأمن والاستقرار المجتمعي، لأن أهدافها كانت منسجمة مع متطلبات السكّان واحتياجاتهم، ومع أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت السّنُوسيّة قوّة إقليميّة هائلة، يدين سكان إقليمي برقة وفزّان بالولاء الكامل لها، وإن لم يكن إقليم طرابلس كذلك، إلاّ أن عددا من سكّانه كانوا مرتبطين بالسّنُوسيّة ويدينون لها بالولاء.
واجهت السّنُوسيّة بحلول أواخر القرن التاسع عشر وضعا دوليّا صعبا ومتصاعدا، وشاركت في سلسلة من الحروب الاستعمارية الّتي دامت لعقود مع القوى الأوروبيّة التوسعية، واستطاعت أن تخرج منها إلى وضع أكثر استقرارا، وتعززت مكانة الملك إدريس السّنُوسي مؤسس ليبيا الحديثة، دوليا، بفضل حسه السياسي، وأصبح محليا الشخصيّة الجامعة لكل اللّيبيّين، ما أدّى إِلى مبايعة كل القوى الوطنيّة له ملكا للبلاد، وموافقة القوى العظمى على ذلك، بالإضافة إِلى المباركة الأممية التي نالها، المتمثلة في مباركة هيئة الأمم المتّحدة.
كان خطأ الملك إدريس الوحيد هو استبعاد المخاطر الّتي شكلها التيار القومي العربي على نظامه، والتركيز فقط على التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسّياسيّة، فاجتاحت موجة القومية العربية المنطقة العربية بأكملها في ستينيات القرن المنصرم، وحدث انقلاب في ليبيا سبتمبر 1969، وسقط نظامها الملكي على يد ضبّاط صغار السن والرتب.
وعلى الرّغم من أن انقلاب معمّر القذافي، ألغى الدستور والنظام الملكي، وأجبر الأمير الحسن الرّضا السّنُوسي ولي العهد على التنحي عن السّلطة، إلا أن النظام الملكي والسيرة السّنُوسيّة العطرة، ظلّتا راسختين في عقل ووعي ووجدان الأمّة الليبية، ولا يزال يُنظر إِلى السّنوسيين في ليبيا على أنهم تجسيد للسيادة والاستقلال والكرامة الوطنيّة الليبيّة، وإِلى تاريخهم على أنه ناصع البياض لا عنف ولا عدوان شابه في يوم من الأيّام، بل إنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالعمران والدفاع عن الحياة المدنية.
الكاتب هاري هالم: باحث في قضايا الدفاع والقضايا الاستراتيجية والفكرية والتاريخية، وقد صدره كتابه هذا حديثا (20 أغسطس المنصرم).