تتسع دائرة الدول العربية التي أقدمت على تحرير عملاتها المحلية أو خفض قيمتها أمام العملات الأجنبية، في محاولات متباينة لمواجهة أزمات التضخم، والعجز المالي، وتراجع الاحتياطيات النقدية، في سياق متسارع من التغيرات الاقتصادية الحادة.
تجارب صاخبة
وبينما خاضت، دول مصر والسودان ولبنان تجارب صاخبة في هذا المسار خلال السنوات الخمس الأخيرة، التحقت تونس بالقائمة هذا العام، عبر خفض تدريجي للدينار، لتنضم إليها حديثًا ليبيا بقرار مفاجئ قبل أيام، من مصرف ليبيا المركزي.
بداية أزمة
وفي تطور مفاجئ، قرر المصرف المركزي، عبر بيان رسمي، تخفيض قيمة الدينار بنسبة 13.3%، ليصل سعر صرف الدولار الأمريكي رسميًا إلى5.5677 دينار، في خطوة تعكس بداية أزمة مالية واقتصادية متصاعدة، وصفها البعض بأنها تمهيد غير معلن لعملية “تعويم” تدريجي للعملة.
ويمثل هذا الإجراء أول خفض رسمي منذ العام 2020، حين وافق المصرف على تعديل السعر إلى 4.48 مقابل الدولار، ويأتي في وقت يسجل فيه سعر صرف الدينار في السوق الموازية 7.20 مقابل الدولار الأمريكي.
القرار الجديد يأتي في وقت تعاني فيه البلاد من ارتفاع معدلات التضخم، وضعف في النمو الاقتصادي، وتراجع حاد في أسعار النفط، المصدر الرئيسي للدخل المحلي، حيث بلغ سعر البرميل 65 دولارًا فقط.
تحذير ومخاطر
وحذر المصرف المركزي من مخاطر أكبر إذا ما استمر الانقسام السياسي والانفاق الحكومي العشوائي، ما قد يضع البلاد على مسار تعويم العملة بشكل كامل خلال السنوات القادمة، كما حدث في دول عربية أخرى.، ومن المتوقع أن يكون هذا الخفض قد يكون مجرد بداية لمسار أوسع من التراجع إذا لم تُرافقه إصلاحات اقتصادية جذرية.
وأوضح بيان المركزي، أن إجمالي إنفاق الحكومتين في العام 2024 بلغ نحو 224 مليار دينار، (46 مليار دولار)، بينها 42 مليارًا خصصت لمبادلات الخام مقابل الوقود.
تجربة مصر
كانت مصر أولى الدول التي أعادت إحياء سياسة تعويم العملة خلال السنوات الخمس الماضية، وذلك بعد خفض تدريجي ومتكرر للجنيه بدءًا من عام 2016 ثم مجددًا في 2022، تنفيذًا لتوصيات صندوق النقد الدولي، بوصول سعر الصرف المحلي إلى أكثر من 50 جنيها مقابل الدولار.
تجربة السودان
قرر السودان في عام2021 تعويم الجنيه عدة مرات في محاولة لإنقاذ الاقتصاد، لكن غياب الاستقرار السياسي وضعف المؤسسات إضافة إلى الحرب تشهدها البلاد منذ عامين، أدوا إلى انهيار حاد في قيمة العملة وتضخم مفرط، بلغ أكثر من 2000 جنيه مقابل الدولار الأمريكي، ما فاقم الأوضاع المعيشية وفاقم معدلات الفقر.
تجربة لبنان
منذ عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، في سياق انهيار اقتصادي غير مسبوق، ورغم محاولات البنك المركزي في 2023 لوضع سعر صرف رسمي أقرب إلى السوق الموازية، لم تُعلن سياسة تعويم واضحة، لكن الواقع الاقتصادي فرض نفسه كأمر واقع، إذ وصل سعر صرف العملة المحلية إلى أكثر من 89 ألف ليرة مقابل الدولار.
تجربة تونس
في بداية عام 2025، أقدمت تونس على خفض تدريجي للدينار التونسي ضمن خطة إصلاح اقتصادي مدعومة جزئيًا من مؤسسات دولية.
التجربة التونسية تُوصف بأنها “حذرة”، حيث تجنّبت البلاد حتى الآن التعويم الكامل، لكنها تواجه ضغوطًا شعبية واقتصادية متزايدة قد تدفعها لتوسيع نطاق الخفض لاحقًا، خاصة مع زيادة أسعار السلع الغذائية والمحروقات بسبب وصول سعر صرف الدينار إلى 3.07 مقابل الدولار.
مسار معقد
أظهرت التجارب العربية، أن تحرير العملة المحلية ليس وصفة واحدة، بل مسار معقد يتوقف نجاحه على عدة عوامل، أهمها: الاستقرار السياسي، وجودة احتياطيات نقدية كافية، برامج إصلاح اقتصادي حقيقية، ودعم دولي بشروط واقعية.
وفي المقابل، تغيب هذه الشروط في حالات عديدة، ما يجعل بعض تجارب التعويم أقرب إلى كارثة معيشية، لا إلى إصلاح اقتصادي فعلي،
حالة يأس
قرار تخفيض قيمة الدينار الليبي يعكس حالة من اليأس في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وعلى الرغم من أن الخطوة قد تكون ضرورية لوقف النزيف الاقتصادي، إلا أن نجاحها يعتمد بشكل كبير على قدرة السلطات على تنفيذ إصلاحات حقيقية ومكافحة الفساد المستشري، بعدما صنّفت ليبيا ضمن أسوأ 10 دول عالميًا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2025، ومع ذلك، فإن استمرار الانفاق الحكومي والانقسام السياسي والاعتماد المفرط على النفط يشكلان تهديدًا كبيرًا لأي جهود للإصلاح.
هل ستتمكن ليبيا من تجاوز هذه المرحلة الحرجة أم أنها ستغرق أكثر في دوامة الأزمات الاقتصادية والسياسية؟