يبدو أن ليبيا، التي تم إهمالها إلى حد كبير من قبل روسيا في السابق عندما قامت بتفويض شؤونها لرئيس مجموعة فاغنر الروسية، يفغيني بريغوجين، وبعض عناصر جهاز المخابرات العسكرية الروسي (GRU)، تعود إلى الواجهة كبلد استراتيجي بالنسبة لموسكو، حيث تستخدم كرابط بين توسعها في الساحل الإفريقي وتأسيس قاعدة بحرية عسكرية روسية في البحر الأبيض المتوسط.
في تحقيق، نشره الموقع الإلكتروني لمبادرة “عين على فاغنر“، وهي مبادرة بحث واستقصاء “فرنسية-سويسرية” تأسست عام 2017 لمتابعة أنشطة مجموعة فاغنر الروسية، كشف الموقع عن تزايد اهتمام الكرملين بالحضور في ليبيا، ما دفعه لتغيير الاستراتيجية لتعزيز حضورها في القارة السمراء.
وقبل يوم من وفاة بريغوجين في حادث تحطم الطائرة في روسيا بتاريخ 23 أغسطس 2023، زار نائب وزير الدفاع الروسي يونس بيك يفكوروف ليبيا، حيث التقى قائد القيادة العامة خليفة حفتر، الذي يسيطر على جزء من الأراضي الليبية، وفقا للتحقيق.
وكشف أيضا عن نقل الآلاف من موظفي وزارة الدفاع الروسية، بالإضافة إلى مجندي “فاغنر”، إلى ليبيا منذ بداية العام الجاري تحت غطاء تشكيلات قتالية، تُعرف باسم “الفيلق الأفريقي”.
هذا وتقوم روسيا، منذ ثلاثة أشهر، بنقل عسكريين ومقاتلين روس إلى ليبيا، بحسب المعطيات التي جمعتها الشبكة. ووفقًا لمصدر أمني ليبي، يوجد حوالي 1800 عسكري روسي في البلاد منذ أسبوعين، يتمركز أغلبُهم في شرق ليبيا، في المناطق التي تسيطر عليها قوات القيادة العامة بقيادة خليفة حفتر والتشكيلات المرتبطة به. وتم نقل بعضهم إلى النيجر بينما بقي البعض الآخر في ليبيا في انتظار التعليمات. كما أشار مصدر في وزارة الدفاع الروسية إلى أن مئات من أفراد القوات الخاصة تم إعادة نشرهم من أوكرانيا إلى ليبيا في بداية العام الحالي.
آلاف من العسكريين ومقاتلين آخرين من “الإدارة الإفريقية” التابعة لمجموعة فاغنر وصلوا إلى ليبيا منذ فبراير إلى أبريل. وفقًا لمصدر أمني روسي، يتواجد العسكريون في ليبيا بشكل غير رسمي ويتم تسويقهم كممثلين لشركة عسكرية خاصة.
وبحسب مصادر موقع المبادرة، يقوم جزء من العسكريين الروس بتدريب المقاتلين الليبيين والمجندين من “الإدارة الإفريقية”. ويقوم الجزء الآخر بتنفيذ مهام محددة مثل نقل المعدات العسكرية. ويُفترض أن يتم التحكم في القوة الروسية في ليبيا من قِبل أربعة قادة يتناوبون بين سوريا وليبيا، ويقدمون بدورهم تقاريرهم مباشرة إلى وزير الدفاع الروسي .
تزايد النشاط في القواعد العسكرية
أشار تقرير المبادرة الاستقصائية، إلى وجود هذه الوحدة الجديدة (الفيلق الإفريقي) في عدة قواعد تابعة للقيادة العامة، وهي الخروبة، والجفرة، وقاعدة جمال عبد الناصر في طبرق، مع وجود قاعدتين أخريين في الجنوب.
كما أشارت المصادر أيضًا إلى وجود معسكر تدريب جديد بالقرب من بنغازي لم تتمكن المبادرة من تحديده. ومع ذلك، كشف بحثها عبر الإنترنت عن إحياء الوجود الروسي هناك في الأشهر الأخيرة.
كما رصدت تتبعات المجموعة الاستقصائية أفرادا لطواقم عسكرية روسية تابعة لفيلق إفريقيا، من خلال تقفي أثرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتحديد مواقعهم والحصور على صور لهم حتى أثناء القيام بمهامهم. من ذلك التعرف على عنصر يحمل اسم “أندريه”، بالقرب من قاعدة الخروبة الجوية. وتم ربط ظهور حسابه بعرض عسكري/تدريبي نظمته القيادة العامة. وتم تحديد موقع حسابه في المنطقة قبل يوم واحد من عقد قوات القيادة العامة تدريبًا في 16 مارس 2024. عرض فيه عدة أنظمة دفاع جوي من طراز “بانتسير”.
براك الشاطئ
شهدت قاعدة براك الشاطئ العسكرية زيادة في عدد القوات بنسبة تقارب 25%. ومن خلال أدوات استخبارات المصادر المفتوحة، تمكنا من التأكد من وجود عسكريين/محاربين سابقين في قاعدة براك الشاطئ الجوية، ويُعتبر هذا الوجود جديدًا نسبيًا، حيث لم تكشف التحقيقات السابقة، التي يعود تاريخها إلى مارس 2024، عن وجود مثل هذا النوع من الانتشار، مما يشير إلى أنه يُعَدُّ جديدا نسبيّا.
والفيلق الإفيقي هو تشكيل عسكري روسي تم الكشف عنه مطلع 2024 ليكون بديلا عن مجموعة “فاغنر” الروسية الخاصة، وهو ما يعكس سعي روسيا لتوسيع نفوذها العسكري في القارة الإفريقية. يتوزع الفيلق بين 5 دول أفريقية هي ليبيا وبوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر. وتحتضن ليبيا المقر المركزي وذلك لعدة عوامل منها نشاط عناصر فاغنر سابقا في مدينة سرت. ومن عوامل اختيار ليبيا مقرا لهذا الفيلق ارتباطها بساحل البحر المتوسط، وهو موقع إستراتيجي لضمان خطوط الإمدادات العسكرية وتحركات العناصر التابعة للفيلق إلى الدول الأفريقية الأخرى.
عودة مرتقبة لتعزيز دور واشنطن في ليبيا
أخطرت، نهاية الشهر الماضي، إدارة بايدن الكونجرس بخطتها لاستعادة الوجود الدبلوماسي الأمريكي في ليبيا، بعد عقد من إخلاء السفارة الأمريكية في طرابلس، ما نتج عنه ضعف الحضور العسكري في مقابل تغول روسيا في ليبيا وإفريقيا.
من جهة أخرى، تركز إدارة جو بادين على ضمان استمرار امدادات النفط ومراقبة التوسع العسكري الروسي في شرق البلاد خصوصا من قبل مجموعة “الفيلق الإفريقي”.
ولسنوات، اقتصرت رؤية واشنطن على متابعة ودعم الإجراءات التي أعلن عنها المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا عبد الله باتيلي، دون تحقيقها على أرض الواقع، خاصة فيما يتعلق بالإعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
ومنذ عدة سنوات، تتمركز في معسكر بضواحي مدينة بنغازي قوة عسكرية أمريكية، تتكون من عشرات الضباط ومعززة بأفراد من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA)، إضافة إلى أجهزة لتتبع وتنصت ومراقبة الطائرات المسيرة. في الوقت نفسه، يتواجد عناصر من المخابرات الأميركية في طرابلس، لتعزيز الجهود الاستخباراتية في المنطقة.
للتصدي للتمدد الروسي
تتعلل الخارجية الأمريكية بمجموعة المصالح الأساسية التي تضمن استعادة وجودها الدبلوماسي في ليبيا، وذلك للحصول على دعم الكونغرس لإعادة تمثيلية ديبلوماسية كاملة، وتعزيز فرص التجارة والاستثمار الأمريكية هناك، ومنع ليبيا من التورط في حالة عدم الاستقرار المتزايد عبر منطقة الساحل.
لكن من بين الأسباب الرئيسية لعودة الولايات المتحدة هو تعاظم الحضور العسكري الروسي على الضفة الجنوبية للمتوسط ولحلف شمال الأطلسي. فبينما كانت الولايات المتحدة تمارس دبلوماسيتها على الهامش في السنوات الأخيرة، حسب خبراء، عرف الحضور الروسي تقدّما ملحوظا.
وتشكل روسيا عموما تهديدًا استراتيجيًا للمصالح الأمريكية في ليبيا وشمال إفريقيا ومنطقة البحر المتوسط، يُضاف إليها في هذا العام نشاط “الفيلق الإفريقي” الذراع الروسية الجديدة في أفريقيا، مما يزيد في تعقيد تصدي واشنطن لتغول الدب الروسي.