في خضم الأزمة الدائرة في أوكرانيا، أثارت مشاركة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في قمة السلام الخاصة بأوكرانيا التي عقدت في جنيف، تساؤلات حول نهج المجلس الرئاسي تجاه السياسة الخارجية الليبية وطبيعة مواقفها من القضايا الدولية الكبرى. فرغم حضور المنفي للقمة ولقائه مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، إلا أن ليبيا امتنعت عن التوقيع على البيان الختامي الذي يلقي باللوم على روسيا في الحرب، ما أثار تساؤلات حول دوافع هذا الموقف.
ديناميكيات معقدة
وفي ظل الديناميكيات المعقدة للقوى الفاعلة في ليبيا والانقسامات الداخلية التي تعاني منها البلاد، يطرح موقف المجلس الرئاسي تساؤلات حول ما إذا كانت هناك سياسة خارجية مستقلة تتبناها رئاسة المجلس، أم أنها محاولة للتوازن بين المصالح المتضاربة للأطراف الدولية المؤثرة في الملف الليبي المعقد والهش، مع عدم إغفال مكانة ليبيا الجيوسياسية والتاريخية والاقتصادية على الساحة الدولية.
إشارة دبلوماسية
ويرى الباحث جلال حرشاوي من المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن أن مشاركة المنفي في القمة واجتماعه مع زيلينسكي هي “إشارة دبلوماسية” تؤكد عدم هيمنة حكومة الوحدة الوطنية على السياسة الخارجية الليبية بالكامل، خاصة مع ميل هذه الحكومة نحو التقارب مع روسيا. في المقابل، يعتقد آخرون أن رفض ليبيا التوقيع على البيان الختامي يعكس توجهًا سياسيًا جديدًا يسعى إلى استقلالية الموقف الليبي بعيدًا عن التبعية لأي طرف.
وقد علق الصحفي محمد الجازوي على موقف ليبيا قائلاً: “في خضم الحديث عن الصورة المشتركة التي جمعت رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس أوكرانيا على هامش قمة السلام، يبدو أن الكثيرين قد غفلوا عن جانب أكثر أهمية وهو رفض ليبيا التوقيع على البيان الختامي لهذه القمة.”
توجه سياسي جديد
وأضاف الجازوي أن موقف ليبيا الرسمي هو ما يستحق التحليل والنقاش، حيث يعكس توجهًا سياسيًا جديدًا قد يكون له تداعيات على الساحة الدولية، ويعبر عن استقلالية الموقف الليبي بعيدًا عن التبعية لأي طرف.
في الواقع، قد تكون سياسة المجلس الرئاسي محاولة للتوازن بين المصالح المتعارضة للقوى الإقليمية والدولية في ليبيا، حيث يصعب عليها اتخاذ موقف حاسم في قضايا دولية شائكة. ومع استمرار حالة الانقسام والصراع على السلطة داخليًا، قد يكون من الصعب على ليبيا تبني سياسة خارجية متحيزة خاصة في قضايا تشهد انقساما حادا بين القوى الكبرى دوليا.
التوازن وعدم الانحياز
في المرحلة الراهنة، قد تبدو سياسة التوازن هي الخيار العملي لليبيا في تعاملها مع القضايا الدولية الشائكة، حيث يصعب عليها اتخاذ مواقف حاسمة في ظل الانقسامات والصراعات الداخلية المستمرة. فبينما تسعى بعض الأطراف إلى التقارب مع روسيا، تحاول أطراف أخرى الحفاظ على علاقات متوازنة مع الغرب ودول أخرى مؤثرة في الملف الليبي.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار موقف المجلس الرئاسي في قمة السلام لأوكرانيا محاولة للتوفيق بين كل هذه المصالح المتضاربة، حيث شارك في القمة ولقي زعيم أوكرانيا، لكنه في الوقت نفسه امتنع عن التوقيع على البيان الختامي الذي يحمل روسيا المسؤولية عن الحرب. وبالرغم من التناقض الظاهر، قد تكون هذه السياسة هي الأكثر واقعية للحفاظ على هامش من المناورة الدبلوماسية في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها ليبيا.
إلى متى؟
ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذه السياسة حلاً دائماً، حيث ستظل ليبيا بحاجة إلى تبني موقف أكثر وضوحاً واستقرارًا في سياستها الخارجية على المدى الطويل. وهذا لن يتحقق إلا بتجاوز الانقسامات الداخلية وتحقيق الاستقرار السياسي الذي يمكّن البلاد من اتخاذ قرارات مستقلة تخدم مصالحها الوطنية العليا بعيداً عن الضغوط والتجاذبات الخارجية.