واجهت بعثة الأمم المتحدة، منذ إرسالها إلى ليبيا عقب الثورة ضد نظام القذافي في 2011، صعوبات في جهودها لمساعدة الحكومات الانتقالية على استعادة الأمن وتعزيز سيادة القانون والمصالحة الوطنية، وحماية حقوق الإنسان، ودعم فاعلية مؤسسات الحكومة.
وساطة الأمم المتحدة تصل إلى طريق مسدود
ويعد تقدم عمل البعثة الأممية في تحقيق هذه الأهداف محدودًا، حيث تواصل انقسام ليبيا بين حكومتين رئيسيتين، لا تحتكر أي منهما للقوة، بل تعتمد كلتاهما على الميليشيات في المناطق التي تسيطر عليها. ففي الغرب، تسيطر حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من الأمم المتحدة، برئاسة عبدالحميد الدبيبة ومقرها في طرابلس، أما حكومة الاستقرار الوطني، التي شكلت في مارس 2022 برئاسة أسامة حمادة ومقرها سرت، فهي مؤيدة من قبل مجلس النواب وتعمل بالتعاون مع الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر. وتسيطر حكومة حماد على جزء كبير من شرق البلاد وجنوبها، بمساعدة جهات أجنبية كمصر وروسيا والإمارات العربية المتحدة.
كان الهدف الرئيسي لبعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا في السنوات الأخيرة، هو تأمين انتخابات برلمانية ورئاسية وطنية من شأنها أن تؤدي إلى تشكيل حكومة ليبية موحدة تحظى بالشرعية، ويختارها الشعب الليبي. إلا أنّ استقالة آخر ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، عبدالله باتيلي، في 16 إبريل، أثبتت أن عملية الوساطة وحل النزاع قد وصلت إلى طريق مسدود. وتبدو فرص النجاح في المشهد الليبي على المدى القريب معدومة، حيث أن العمليات الأساسية للوساطة في حالة احتضار.
حضور روسي مهيمن في المشهد السياسي الليبي
من بين القوى الخارجية العديدة التي تمارس نفوذها السياسي في ليبيا، كانت روسيا هي الفاعل الأكثر أهمية على الدوام. فعلى مدى عقد من الزمن، زودت موسكو حفتر ومجلس النواب والحكومات الشرقية المختلفة بمليارات الدولارات من الدنانير الليبية المزيفة، التي طبعتها مطبعة الدولة الروسية، غوزناك. وقد تم تسليم هذه الأموال في السابق دون مساءلة إلى القسم الشرقي من مصرف ليبيا المركزي؛ لكنها الآن تنتهي مباشرة في أيدي حفتر وأبنائه لتوزيعها على النحو الذي يرونه مناسبا.
وما دام الرئيس فلاديمير بوتين يقود روسيا، فلا ينبغي انتظار أي نتيجة من عمليات الوساطة أو حل النزاع. فباستخدام مجموعة من الأدوات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية حقق دعم بوتين لأمير الحرب الليبي حفتر مكاسب رائعة لروسيا. حيث مكنت “دينارات الجوزناك” (شركة روسية مملوكة للدولة) حفتر ومجلس النواب من تعطيل تنفيذ الاتفاق السياسي الليبي عام 2015 إلى أجل غير مسمى، وكذلك تكوين حكوماتهما الموازية، التي يسيطر عليها حفتر، وتنفيذ مهام حكومية غير أمنية في الأراضي التي تسيطر عليها من قبل قوات حفتر.
وبمساعدة عسكرية واستخباراتية من مصر وفرنسا والأردن والإمارات وروسيا، وبدعم من مرتزقة من السودان وتشاد، تمكن حفتر وعائلته من توسيع نطاق انتشارهم الجغرافي وسيطرتهم على ليبيا. إلا أنه فشل في السيطرة على طرابلس والمنطقة الساحلية الشرقية، إثر توقف حملته الوحشية التي تواصلت إلى يناير 2020، وذلك بسبب تدخل تركيا. حيث زودت الأخيرة حكومة طرابلس والقوات التابعة لها بطائرات بدون طيار، وأنظمة دفاع جوي، واستخبارات، ودعم بحري، مما أجبر في نهاية المطاف، حفتر وقواته ومرتزقته، بالإضافة إلى القناصين الذين قدمتهم مجموعة فاغنر بقيادة يفغيني بريجوزين، على التراجع.
أما بالنسبة للقوات الروسية، فقد تراجعت فقط في قاعدة الجفرة الجوية، وسط ليبيا، حيث احتمت مجموعة فاغنر والقوات الروسية المرتبطة بها، وبنت شبكة واسعة النطاق من المواقع التي يقال إن روسيا تستخدمها لمساعدة حفتر (وبوتين) على السيطر على البنية التحتية الاستراتيجية من خلال توفير المعلومات الاستخبارية والمشورة والدعم العملياتي. وبالاعتماد على ليبيا كقاعدة عسكرية لها، تمكنت روسيا من توسيع نفوذها ودعمها العسكري للحكومات في جميع أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء.
غياب واشنطن مقابل حضور بارز لموسكو
في الوقت الذي عززت فيه روسيا حضورها في ليبيا، كان قرار أمريكا محدودا وغير كاف. إذ قوضت سياسة رئيس الولايات المتحدة الأسبق دونالد ترامب، النفوذ الأمريكي وذلك بسبب تجاهل الأزمة الليبية الذي ميز السياسة الخارجية الأمريكية آنذاك. الأمر الذي أدى إلى شلّ السياسة الأمريكية وإبطال النفوذ الأمريكي في ليبيا، بشكل كامل. كما كان أمير الحرب الليبي (كما وصفته ميدل إيست) يحاول الاستيلاء على طرابلس.
فبعد مرور 12 عاماً على مقتل السفير كريس ستيفنز وثلاثة مسؤولين أميركيين آخرين في بنغازي، وبعد عقد من الزمن منذ إغلاق السفارة الأميركية في طرابلس، لم تقم الولايات المتحدة بعد بإعادة تأسيس بعثتها الدبلوماسية الطبيعية في ليبيا، مما يعكس عدم وجود دبلوماسية حقيقية. وما يترجم الغياب الأمريكي في ليبيا، ليس فقط الخوف من تكرار كارثة بنغازي، وإنما أيضًا عدم إعطاء ليبيا الأولوية وذلك منذ نهاية إدارة أوباما. ومؤخرًا، طلبت إدارة بايدن من الكونغرس توفير التمويل لإعادة فتح سفارة أمريكية جديدة في ليبيا. ويعد هذا التحرك الرسمي الأول للولايات المتحدة بعد صدمة بنغازي، إلا أن هذا القرار جاء متأخرا.
ومع انشغال صناع القرار في الولايات المتحدة هذه الأيام بالحرب الروسية الأوكرانية، والفلسطينية (غزة) الإسرائيلية، وإدارة المنافسة الجيوسياسية مع الصين، فإن الإدارة اليومية للعلاقة مع ليبيا أصبحت بيد المبعوث الخاص والسفير السابق إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند. ومع ذلك، فإن فترة عمل السفير نورلاند تقترب من نهايتها. فبعد خمس سنوات شاقة من الجهود المتواصلة، فشلت الإدارتان اللتان خدم في ظلهما في منحه الأدوات اللازمة لمواجهة التقدم الروسي، وسط انتصار الجهات التي احتمت تحت المظلة الروسية.
وقد التقى السفير ريتشارد نورلاند، بشكل متكرر مع خليفة حفتر للحصول على دعمه لإجراء الانتخابات وتوحيد الجيش الليبي، إلا أنه لم يحصل على أية تنازلات واضحة.
وبتكليف جنيفر جافيتو قائمة بأعمال السفارة الأمريكية لدى ليبيا، خلفا لريتشارد نورلاند، يتعين على واشنطن تبني نهج أكثر فاعلية يعتمد على مشاركة أمريكية مكثفة في إعادة تشكيل بيئة أصبحت مريحة للغاية بالنسبة لحفتر والجهات الفاعلة الأخرى، في الوضع الراهن في ليبيا وكذلك الحكومات الأجنبية التي تدعمها.
أبرز آليات إعادة تنشيط السياسة الأمريكية
تواصل موسكو المضي قدمًا لتعزيز حضورها في ليبيا، بما في ذلك الجهود المبذولة لإنشاء ميناء بحري على طول الساحل الشرقي لليبيا. وهذا النوع من التطور يعد خطيرا بالنسبة للأمن القومي الأمريكي بحيث يجب أن يحظى باهتمام إدارة بايدن بالإضافة إلى القلق الفوري من جيران ليبيا في البحر الأبيض المتوسط، بدءاً بمصر.
فمن المطلوب من كبار مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين الذين يعملون في ليبيا أن يفكروا في استخدام أدوات قسرية متعددة تحت تصرف واشنطن، بما في ذلك قانون ماغنيتسكي (قانون أصدره الكونغرس عام 2016 يهدف إلى معالجة انتهاكات حقوق الانسان على النطاق العالمي) والعقوبات الأخرى، مثلما اقترحت مؤخرًا ستيفاني ويليامز، الدبلوماسية الأمريكية والقائمة بأعمال المبعوث الخاص السابقة للأمم المتحدة إلى ليبيا. وينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وأولئك الذين لديهم مصالح استراتيجية متوافقة في ليبيا، أن يعملوا على تطوير خيارات تجعل من الصعب على روسيا العمل من قاعدتها الجوية في الجفرة.
ستحتاج الولايات المتحدة أيضًا إلى العثور على ليبيين غير راضين عن الوضع الراهن، من الذين يبحثون عن وسائل سياسية -غير عنيفة– للتغيير، للعمل معهم. إن العثور على بدائل لمجموعة الشخصيات التي عارضت الانتخابات، منذ فترة طويلة هو شرط أساسي لأي عملية تقودها الأمم المتحدة في المستقبل، أو بقيادة ليبية؛ للحصول على أي فرصة لتمكين ليبيا من تجاوز نظام الحكومات الموازية وأمراء الحرب الذين يسعون فقط إلى تقسيم الغنائم.
ونظراً للمبادرات الروسية في ليبيا ودول أخرى في إفريقيا، فإن مواجهة التحدي ستتطلب بالضرورة اتباع نهج حكومي شامل من جانب الولايات المتحدة، باستخدام الموارد -بما في ذلك الاستخبارات والجيش والاقتصاد وإنفاذ القانون- بما يتجاوز تلك التي يستخدمها الدبلوماسيون.
المصدر: معهد ميدل إيست Middle East