يشهد السودان صراعا مسلحا غير مسبوق بين الجيش وقوات الدعم السريع خلّف خسائر بشرية ومادية كبيرة، فضلا عن تزايد التهديدات الأمنية، وظهور مخاوف محلية ودولية من استمرار موجة العنف داخل السودان قد تزيد عدد الضحايا، وتُدخل البلاد في نفق مظلم.
التهريب
كان التهريب سمة من سمات المناطق الحدودية في كل أنحاء العالم، وتفاوتت سبل الدول في مواجهته إضافة إلى الأسلوب الأمني القائم على التضييق التام وقطع سبيل التهريب بكل أشكاله، وبين التساهل في تهريب ما لا يضرّ أمن البلاد كالسلع الغذائية والتشديد فيما يضرّ كالأسلحة والمخدرات ونحوها، وغيرها من المعادلات والمقاربات.
ليبيا ليست استثناء
لم تكن ليبيا استثناء في ظلّ حدودها المترامية مع 5 دول، مصر والسودان وتشاد والنيجر والجزائر وتونس، فشهدت بعد 2011 وانهيار القوة العسكرية التي كانت تتولى حراسة الحدود، نشاطا محموما للتهريب ليشمل تهريب المهاجرين، إضافة إلى تهريب المخدرات والأسلحة والبضائع، والوقود.
كتيبة سبل السلام
من ضمن هذه المعادلة، كانت الحدود الليبية السودانية، مسرحا للتهريب، خاصة تهريب الوقود، والديزل “النافتا” خصوصا، إلى السودان بعد عام 2011، وكان تهريبا غير منظم تنظيما هرميا، لكنّ الحال تغير بعد سيطرة القيادة العامة على الجنوب الشرقي بكامله من ضمنه مدينة الكفرة، التي نشأت فيها كتيبة تابعة لها باسم “سبل السلام”.
ومنذ تولي الكتيبة زمام الأمور في مدينة الكفرة، في ظل تضييق مالي على القيادة العامة من السلطة المركزية في طرابلس، والحكومات المتعاقبة فيها، والانقسام السياسي في البلاد، عملت القيادة على البحث عن سبل تمويل، إضافة إلى الدعم الخارجي غير المضمون استمراره من حلفاء وأصدقاء، وبرزت فكرة تقنين التهريب وتنظيمه، خاصة تهريب الوقود في الجنوب الشرقي إلى السودان.
علاقة وطيدة
ما عزز تلك الفكرة هو وجود قوات الدعم السريع السودانية بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، التي كان مركزها ولاية غرب دارفور القريبة من المثلث الحدودي بين ليبيا ومصر والسودان، الحليف الذي جمعه بحفتر علاقة رعتها الداعم المشترك، وهي الإمارات.
وبلغت تلك العلاقة مداها عندما أرسل حميدتي نحو ألف من قواته، بحسب تقرير خبراء الأمم المتحدة لعام 2019، دعما لحفتر الذي أرسل أغلب قواته لمهاجمة طرابلس في أبريل 2019 والسيطرة على العاصمة بثقلها المالي والسياسي، وحسم سيطرته على ليبيا، خاصة بعد سيطرته على الجنوب في 2017.
في ظل ذلك ازدهر التهريب بين الحليفين، وكانت عوائده مربحة لكليهما، أما القيادة العامة فقد أنشأت نظاما لتهريب الوقود والبضائع والسلع عبر فرض ضريبة أو إتاوة أو أيا ما أسميتها، دعما لجهودها وخزائنها التي كانت تئنّ جراء الجهد العسكري المتضخم وتعثر حكومتها الحليفة في البيضاء بقيادة عبد الله الثني، عن توفير كل احتياجاتها.
تهريب منظم
لا يتجاوز حجم الاستهلاك الفعلي لمنطقة الواحات والكفرة من وقود الديزل “النافتا”، ثلث ما هو مخصص لها شهريا، في حين يذهب الثلثان الباقيان عبر شبكة التهريب جنوبا خارج الحدود، وفق مصادر خاصة أوضحت لفواصل تفاصيل دورة التهريب.
فما إن تذهب مخصصات “النافتا” إلى شركات التوزيع (الراحلة والشرارة الطرق السريعة ونفط ليبيا)، حتى تبيع الحصة الخاصة للمواطنين بسعر قريب من السعر الرسمي، وهو قرابة 18 قرشا للتر الواحد = 35 دينارا لكل 200 لتر، أما الحصة المخصصة للتهريب فتُباع لمن يحملون تصريحا من كتيبة سبل السلام التابعة للقيادة العامة.
طرق الإتاوات
تبيع محطة التوزيع للمهرب الحاصل على تصريح 200 لتر بـ 100 دينار، أي بـ 50 قرشا للتر، ويكون المهرب قد حصل على تصريح أمني من الكتيبة بدفع الرسوم أو الإتاوة البالغة نحو 14 ألف دينار لكل 100 ألف لتر، أي قرابة 14 قرشا لكل لتر يهرّبه للسودان.
ويبقى الأكيد أنّ الإتاوة التي تبدأ من 7 آلاف دينار إلى 14 ألف دينار للشاحنة، تزيد أحيانا وتنقص، ولا تخضع في ذلك لأي قانون، فقد تُضاف للإتاوه قيمة مضافة بسبب نقل أي بضاعة أخرى مع الوقود كالسيارات أو المواد الغذائية.
بعد استكمال المهرّب دفع الإتاوة وتلقي التصريح الأمني، ينطلق إلى السودان لبيع ما اشتراه من شركة التوزيع بـ 50 قرشا للتر، أو 100 دينار للـ 200 لتر، بأضعاف مضاعفة فيبيع الـ 200 لتر بين 850 دينارا في الأقل و1300 دينارا في الأكثر، أي بين 4.5 دنانير و6.5 دنانير للتر الواحد.
لكن يبدو أنّ منح كتيبة “سبل السلام” التصاريح للحصول على الديزل “النافتا” من شركات التوزيع بسعر 50 قرشا للتر، بدأ يقتصر منذ نحو 3 أشهر على أفراد الكتيبة ومن يدور في فلكهم فحسب، وهو ما يشتكي منه مهربون كثر في مدينة الكفرة يضطرون إلى شراء الديزل من السوق السوداء بأسعار تتراوح بين 300 و 600 دينار لكل 200 لتر، أي بين 1.5 و 3 دنانير لكل لتر، وهو ما يخفّض هامش ربحهم كثيرا.
رِشًا
ولتجنب ذلك، يضطر المهربون إلى دفع رِشًا للحصول على التصريح من الكتيبة لشراء النافتا بسعر 50 قرشا للتر من محطات التوزيع بدل 3 دنانير للتر من السوق السوداء تقريبا، بيد أنّ الرشا لم تعد ذات كبير فائدة لأن عدد شاحنات التهريب المملوكة لأفراد في كتيبة سبل السلام ومن حولهم بات كثيرا جدا وهو ما يستهلك المخصص تقريبا.
مليار دينار
تذهب هذه الإتاوات التي تجمعها الكتيبة عبر مكتب الجباية الخاص بها، إلى “صندوق إعمار الكفرة” وتحال الأموال إلى القيادة العامة، وقد بلغ حجم الإتاوات من تهريب الوقود إلى السودان الموردة إلى الصندوق، سنويا، مليار دينار على أقل التقديرات.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يعدّ نظام التهريب القائم ونشاطه المتزايد في ليبيا عقب عام 2011 هو ما أعطى فرصة لقائد قوات الدعم السريع “حميدتي” لانقلابه على البرهان في السودان لضمانه خط إمداد لن يتوقف، أم كان هناك اتفاق رسمي مبرم بين حفتر وحميدتي على الإمداد اللوجستي؟