في ظل التحديات الاقتصادية العالمية التي تعصف باقتصادات الدول المعتمدة على النفط، تبدو ليبيا على حافة أزمة اقتصادية غير مسبوقة. فمع توقعات متزايدة بتراجع أسعار النفط العالمية، تلوح في الأفق مؤشرات خطيرة قد تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الليبي، الذي يعتمد بشكل شبه كامل على عائدات النفط.
أسعار النفط
وكشفت تقارير اقتصادية عن استمرار هبوط سعر البرميل إلى ما دون 65 دولارًا حتى عام 2026، بحسب وكالة رويترز. وتأتي هذه التوقعات على خلفية تراجع الطلب العالمي، وازدياد الاعتماد على مصادر الطاقة البديلة، بالإضافة إلى التوترات الجيوسياسية والقرارات السياسية المؤثرة في الاقتصاد العالمي.
التأثير على ليبيا
بالنسبة لليبيا، فإن هذا التراجع يعني انخفاضًا حادًا في الإيرادات الحكومية، ما قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية محتملة، نظرًا لاعتمادها شبه الكامل على العائدات النفطية لتغطية ميزانيتها وتمويل إنفاقها العام. وفي ظل غياب إصلاحات اقتصادية وهيكلية حقيقية، يبقى الاقتصاد الليبي رهينة لتقلبات السوق النفطية العالمية، ما يجعله عرضة لانهيارات دورية مع كل هبوط جديد في الأسعار.
ومع التراجع المحتمل للأسعار، تبرز تحديات كبرى، خاصةً في ظل غياب تنوع اقتصادي حقيقي. استمرار انخفاض الأسعار قد يؤدي إلى عجز مالي يصعب احتواؤه، ويفتح الباب أمام سيناريوهات اقتصادية أكثر قتامة.
ارتفاع الدولار
لم تقتصر التحديات على تراجع أسعار النفط فحسب، بل زادت الضغوط على الاقتصاد الليبي مع ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي مقابل الدينار الليبي. هذا الارتفاع يؤدي إلى زيادة تكلفة الواردات الأساسية مثل الغذاء والدواء، مما يفاقم معدلات التضخم ويؤدي إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين. كما تفاقمت الأزمة النقدية بسبب الفجوة الكبيرة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق السوداء، مما دفع الاقتصاد إلى حافة الانهيار.
بيان المركزي
يأتي ارتفاع قيمة الدولار مقابل الدينار الليبي بالتزامن مع إعلان مصرف ليبيا المركزي، في 6 أبريل الحالي، تخفيض سعر صرف الدينار مقابل حقوق السحب الخاصة بنسبة 13.3%، لترتفع قيمة الدولار إلى 5.5677 دينار في السوق الرسمية.
وكشف مصرف ليبيا المركزي أن حجم الإنفاق العام خلال عام 2024 بلغ 224 مليار دينار، منها 123 مليار دينار مصروفات حكومة الوحدة، و 59 مليار دينار إنفاق الحكومة المكلفة.
وبحسب المصرف، أدى التوسع في الإنفاق العام المزدوج إلى زيادة كبيرة في عرض النقود، حيث تجاوز 178 مليار دينار، ما من شأنه التسبب في عدة آثار اقتصادية، كزيادة الطلب على النقد الأجنبي، واستمرار الضغط على سعر الصرف، وارتفاع معدلات التضخم، ومخاطر فقدان الثقة في العملة المحلية.
الصناديق السيادية
رغم امتلاك ليبيا لصندوق سيادي خارجي تُقدّر أصوله بمليارات الدولارات، إلا أن هذه الثروة ظلت معطلة بعد عام 2011 نتيجة الصراع الداخلي وتعدد الجهات المسيطرة على مؤسسات الاستثمار. كما يعاني الصندوق من غياب الحوكمة الحديثة، في وقت يشهد فيه العالم تحديثات متسارعة في آليات إدارة الصناديق السيادية.
ومع استمرار الانقسام بين السلطات في الشرق والغرب، وتداخل النفوذ السياسي في الشأن المالي، أصبحت المؤسسة الليبية للاستثمار وغيرها من الكيانات المالية الكبرى رهينة للشلل المؤسسي، ما حرم الدولة من الاستفادة من هذه الأصول المجمدة.
الإنفاق الحكومي
في المقابل، يتواصل الإنفاق الحكومي بوتيرة مرتفعة، كما كشف بيان مصرف ليبيا المركزي الأخير، الذي أشار إلى صرف أكثر من 224 مليار دينار خلال عام 2024. ورغم ضخامته، لا تزال هناك مصروفات إضافية تُنفذ على الأرض دون أن تُدرج أو تُوضح بشكل رسمي، ما يثير تساؤلات حول آليات الرقابة وكفاءة إدارة المال العام.
ويُثير القلق أيضًا توقيع صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا عقودًا جديدة مع شركات محلية وأجنبية لتنفيذ مشاريع في عدة مدن، بالتزامن مع تحذيرات المصرف المركزي من تضخم الكتلة النقدية وتأثيرها على سعر الصرف والتضخم. ويُظهر هذا التوسع غير المحسوب في الإنفاق غياب التنسيق بين مؤسسات الدولة، ويعكس انعدام رؤية اقتصادية موحدة في بلد يعاني أصلًا من هشاشة مالية متزايدة.
التهريب والانقسام
يستمر نزيف الموارد الليبية بسبب تهريب النفط، والإنفاق الحكومي، والانقسام السياسي الذي يقسم البلاد إلى حكومتين. وتشير تقارير محلية إلى أن كميات كبيرة من النفط تُهرّب خارج البلاد يوميًا، في ظل غياب رقابة موحدة وفعالة. وهذا التهريب يضيف ضغوطًا إضافية على الخزينة العامة، ويحرم الاقتصاد من موارد كان يمكن استثمارها في مشاريع تنموية.
مشهد مقلق
وسط هذا المشهد المقلق، تبرز الحاجة إلى تحرك وطني شامل لإعادة بناء الاقتصاد الليبي، بعيدًا عن الاعتماد الأحادي على النفط. فالتحديات الراهنة تتطلب إصلاحات عميقة ووحدة وطنية حقيقية، قبل أن تتفاقم الأزمات وتصل البلاد إلى نقطة اللاعودة. والسؤال الراهن: هل ستتمكن ليبيا من النجاة من هذه العاصفة الاقتصادية؟ أم أن الانهيار بات أمرًا حتميًا؟